قمع عربي عابر للقارات بقلم :عبد الباري عطوان
الخميس 18 مارس 2010, 06:58
قمع عربي عابر للقارات بقلم :عبد الباري عطوان
تعتبر الاجتماعات السنوية لوزراء الداخلية العرب التي تعقد في تونس اكثر الاجتماعات العربية انضباطا ومشاركة، والقرارات التي تنبثق عنها هي الوحيدة التي تحــظى بالتطبيق على ارض الواقع بحماس غير معهود.
جميع الخلافات العربية، العقائدية منها او الحدودية، توضع جانبا اثناء انعقادها، ونجد وزير الداخلية السعودي يجلس جنبا الى جنب مع نظيره العراقي، او المصري مع السوري، ويتبادل الجميع الآراء والمقترحات والمعلومات، فطالما ان المواطن هو الهدف والضحية، وحرياته او حقوقه هي المستهدفة، فلا مجال للخلافات، ولا بد من التعاون.
الاجتماعات السابقة لوزراء الداخلية العرب ركزت على قضية واحدة على درجة كبيرة من الاهمية من وجهة نظرهم، وهي كيفية سيطرة الاجهزة الامنية على وسائل الاعلام التي تغرد خارج السرب الرسمي العربي وتجنح الى الحديث حول قضايا 'محرّمة' مثل الحريات الديمقراطية، والفساد، وقضايا التوريث، و'التحالف المقدس' بين طبقة رجال الاعمال والنخبة الحاكمة.
وزراء الداخلية، وبعد تداول مكثف خرجوا علينا بوثيقة 'تنظيم الاعلام' التي نصت على التصدي للمحطات الفضائية التي تعمل على تقويض الثوابت الرسمية العربية، وتبذر بذور الفتنة، من خلال تطاولها على الحكام، وتجاوز الخطوط الحمر في الحديث عن الفساد، خاصة اذا اقترب من 'عليّة القوم' واوعزوا الى وزراء الاعلام الذين عقدوا اجتماعا في القاهرة قبل عامين بوضع الآليات لتطبيق هذه التوصيات ووضع الآليات والضوابط العقابية للعصاة والمتمردين، مثل اغلاق المكاتب، وسحب تراخيص البث عبر الاقمار الصناعية، ودفع غرامات مالية.
وزراء الاعلام العرب الذين تنص مهامهم الوظيفية، وشروط تعيينهم على تعزيز الرقابة، وخنق الحريات التعبيرية، وحجب المواقع الالكترونية، كانوا اوفياء في التنفيذ الفوري لقرارات نظـــرائهم وزراء الداخلـــية، لانهم لا يتجرأون على معارضتهم، لسبب بسيط لان معظم هؤلاء ينتمون الى الحلقة الاضيق داخل النظام، وبعضهم يعتبر الحاكم الفعلي في بلاده.
محطات تلفزيونية تعرضت للطرد من اقمار صناعية مثل النايل سايت (الحوار والعالم)، ومواقع الكترونية عديدة تعرضت للحجب، واقلام كثيرة منعت من الكتابة، وتعرض اصحابها للاعتقال والتعذيب والاهانات، وما حدث للزميل عبد الحليم قنديل واصحاب المدونات في مصر من اهانات ما زال ماثلا للأذهان.
فالارقام الرسمية تقول ان المملكة العربية السعودية، التي انشأت ادارة خاصة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة لمراقبة المواقع الالكترونية، حجبت اكثر من ربع مليون موقع حتى الآن، نسبة كبيرة منها من المواقع السياسية التي تطالب بالحريات واحترام حقوق الانسان.
' ' '
الاجتماع الاخير لوزراء الداخلية العرب، وبعد ان اطمأن الى تكميم وسائل الاعلام، وفرض وثيقة تنظيم الاعلام الفضائي، ذهب خطوة ابعد من ذلك، عندما تبنى في ختام اعماله امس في تونس قرارا بمطالبة دول العالم كافة، وخاصة بريطانيا ودول الاتحاد الاوروبي، بعدم التعامل مع المجموعات الارهابية والاشخاص الداعمين للارهاب.
وذهب وزراء الداخلية الذين يرفضون او لا يسمحون لأحد بالتدخل في شؤون بلادهم الداخلية الى حد تنصيب انفسهم وعاظا، بل واعطاء اوامر لهذه الدول 'بابعاد هؤلاء الداعمين للارهاب عن الاراضي الاوروبية، وعدم منحهم اللجوء السياسي او السماح لهم باستغلال مناخ الحرية للضرر بأمن الدول العربية واستقرارها'.
وزراء الداخلية العرب نصّبوا انفسهم اوصياء على الحكومات الغربية، يتدخلون في شؤونها الداخلية، ويــدعون حرصاً على أمنها، وهم في واقع الحال يحرصون على انظمة الحكم في بلادهم واستمرارها، من خلال مطاردة المعارضات العربية حتى في منافيها التي اضطرت للجوء اليها.
وزراء الداخلية العرب يعرفون جيداً، مثلما نعرف نحن ايضاً، انه لا يوجد ارهابيون عرب في بريطانيا واوروبا، وانما توجد معارضات عربية، لجأت الى هذه الدول هرباً من القمع الرسمي وانسداد قنوات التعبير ومصادرة ابسط الحقوق الانسانية والمدنية.
هؤلاء الوزراء يريدون تصدير ثقافة القمع الى الدول الاوروبية، بدلاً من ان يستفيدوا من ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وقيم القضاء المستقل، التي تعتبر من مكتسبات الانسان الاوروبي الاساسية، وهنا تكمن المأساة.
الارهاب الذي يتحدث عنه وزراء الداخلية ويريدون مقاومته وحصاره، هو نتاج لسياساتهم وممارسات حكوماتهم القمعية ضد المواطنين، فمعظم الحركات العنفية او الارهابية لجأت الى التفجيرات وتبنت الاعمال السرية والعسكرية بسبب فساد الانظمة، وتقاعسها عن القيام بواجباتها الوطنية، ومصادرة الحريات، ونهب المال العام، وغياب العدالة الاجتماعية، واحتكار السلطة من قبل مجموعة صغيرة، تلتف حول الحاكم وتفتك بالمواطنين بسيفه واجهزته غير الخاضعة لاي محاسبة ولا تخضع لاي ضوابط قانونية.
' ' '
الحكومات الاوروبية لن تستمع لتمنيات او املاءات وزراء الداخلية العرب، او هكذا نأمل، لان في اوروبا نظاما قضائيا مستقلا وفصلا كاملا بين السلطات، وحتى اذا حدثت بعض التجاوزات فإنها تتم في اطار قانوني، وليس نتيجة لمزاج رئيس الوزراء او وزير الداخلية.
وزراء الداخلية العرب يريدون كتم الاصوات التي تنتقد حكوماتهم الفاسدة في معظمها، عبر وسائل اعلام كسرت حاجز الخوف، وتمردت على ارهاب الانظمة. هذه هي الحقيقة وراء هذه القرارات، وهذا هو هدف الذين يقفون خلفها. فالانظمة العربية باتت تشعر انها لم تعد في مأمن بسبب انفجار ثورة المعلومات، وظهور الاعلام البديل العابر للحدود والقارات، الذي تعجز اموال الانظمة واجهزتها عن مراقبته وحجبه.
كنا نتمنى لو ان وزراء الداخلية العرب اتخذوا قرارات بدعم المرابطين في القدس، المتصدين لعمليات التهـــويد للمقدسات الاسلامية والعربية، ولكن حماية هذه المقدسات قضية ثانوية جداً على جدول اولويات حكوماتهم وانظمتهم، فالمهم هو حماية الانظمة وليس حماية الأعراض والمقدسات.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى