- life makerعضو نشيط
- عدد الرسائل : 128
العمر : 41
البلد :
نقاط : 292
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 24/03/2011
ليس بخبز “باب الآغا” تنهض الأمة...
الثلاثاء 05 أبريل 2011, 07:46
ليس بخبز “باب الآغا” تنهض الأمة...
يوجد في بغداد مثل يُضرب لمن يريد حاجةً أو سلعةً معينة بأفضل وأنفس حال وأقلّ سعرٍ في الوقت نفسه، فيقال عنه إنه يريدها مثل “خبر باب الآغا، مكسب –أي ناضج- وحارّ ورخيص” وباب الآغا هي محلة بغدادية سُمِّيت باسم أحد آغوات الانكشارية في العهد العثماني، وكانت تُعرف بأن الخبز الذي يُباع فيها جيدٌ ورخيصٌ في الوقت ذاته.. وصار المثل يُضرب على كلّ مَنْ يُمنِّي نفسه بالحصول على أقصى ما يمكن بأقلّ ما يمكن… أي الأفضل بأقلّ وأبخس سعرٍ ممكن..
لم يبقَ من محلَّة باب الآغا الكثير، فقد صارت جزءاً من شارع الرشيد، ولا يعرف من هو الآغا الذي سمِّيت باسمه تحديدا.. ذهب الآغا وذهب الانكشاريون والدولة العثمانية ولكن بقيت ذكرى ذلك الخبز الجيّد والرخيص في آنٍ واحدٍ مضرباً للأمثال على تلك العقلية التي تريد أقصى ما يمكن بأقلّ ما يمكن..
وإذا كانت محلَّة باب الآغا تتموضع جغرافياً داخل حيِّزٍ ضيِّق من بغداد، فإن عقليَّة خبز باب الآغا تمتدُّ من المحيط على الخليج على الأقلّ.. وربما أكثر من ذلك على المحور الممتدّ من طنجة إلى جاكارتا..
يذكِّرني بذلك حقيقةٌ مؤسفةٌ ألمسها لدى بعض الشباب الذين يتصوَّرون أنَّ الدرب إلى النهضة معبَّد بالزهور وأنه يمرُّ عبر الدورات التدريبية في فنادق الخمس نجوم.. وربما ببعض الرحلات التي تجمع بين النشاط الدعوى والترفيهي –الحلال.. إنهم يريدون النهضة بلا شكّ، كيف لا، وهم الجيل الذي انتشرت المفردة على لسانه،…. لكن يريدونها كما يريد الزبون البغدادي خبز باب الآغا.. بثمنٍ هو أقرب للا شيء.. يريدون النهضة لكنهم يتصوَّرونها رخيصةً وسهلة المنال.. يمكن أن تُحقَّق بلا تضحيات من أيّ نوع كانت.. بل إنهم يريدونها حتى من دون أية مواجهات.. من دون أيِّ حريقٍ كان.. حتى من دون حرق أعصاب…!
لا يمكن لوم الشباب كثيراً في هذا، أو بالأحرى لا يمكن لومهم دون لوم المعطيات الثقافية التي شكَّلتهم وشكَّلت أحلامهم على هذا النحو.. فهذه العقليَّة سائدة عند الكثير من الناشطين والدعاة العاملين في مجالات قريبة من النهضة.. صحيح أن الأمر أوضح وأفصح عند الشباب لكن هذا جزءٌ من كونهم شباباً بالتعريف..
النهضة كما يريدها ويتمناها هؤلاء هي نهضة مهذَّبة ولا تُغضِب أحداً، ولا تمسّ أيَّ مفهوم من المفاهيم الموروثة.. هناك نظرة سائدة تعامِل هذه النهضة كما تعامِل الخاطبة التقليدية البنت التي تريد الترويج لها وتزويجها لأقرب عريس محتمل.. “لها فم بياكل ما بيحكي” -كما يقول الشوام- أي إنها لا تفتح فمها لتعترض على أيّ شيء مهما كان وإنما لتأكل فقط.. وهذه هي مواصفات الزوجة المثالية أيامها ( فقط؟!).. حيث سيطمئنّ العريس إلى أنها لن تعترض على كلّ ما سيفعله…
لكنّ المواصفات المنقرضة للزوجة المثالية لا يمكن أن تنطبق على النهضة بأيّ حالٍ من الأحوال.. لا يُمكِنك أن تُرضي الجميع وفي الوقت نفسه تنجز شيئاً يتناقض مع ما يريده البعض ممن حرصت على إرضائه .. وبالتالي لا يُمكِنك أن تنجز النهضة إن لم تُغضِب بعض مَنْ يريد قعودك.. أو مَنْ تَسبَّب في قعودك في المقام الأول..
بعبارةٍ أخرى، لا يُمكِنك أن تنهض دون أن تُزيح عن كاهلك ما تَسبّب في انحطاطك ولقرونٍ طويلة.. وهنا أقصد القيم السلبية التي تنكَّرت خلف فهمٍ خاطئٍ لنصوصٍ دينيةٍ أو خلف نصوصٍ ضعيفةٍ أصلاً.. قيم تعايشت مع حالة الانحطاط التي مرَّت بها الأمة وسوّقت لتعوُّدِ الناس عليها، وكانت جزءاً من حالة السلم والرِّضا العام بها.. .هذه القيم على سلبيتها وبُعدِها عن القيم التي أرساها الإسلام في الجيل الأول.. لها نوعٌ من القداسة المزدوجة أولاً لارتباطها بنصٍّ دينيٍّ.. وثانياً لأنّ قِدَمها يمنحها قداسةً إضافيةً.. فهي جزءٌ من التراث الذي يعتزُّ به الناس، ويعتقدون أن التخلي عنه تخلٍّ عن إرثهم وهويتهم.. فكيف إذا ارتبط في أذهانهم بنصٍّ دينيٍّ مقدَّس لا ينتبهون إلى فهمه الخاطئ.. أو نصٍّ استقرّ في أذهانهم أنه دينيٌّ دون أساسٍ حقيقيٍّ.. ومن الطبيعي أن هذه القيم السلبية لها حَرَسُها القديم الذي يؤمن بها عن حقّ.. وأيضا هناك مؤسساتٌ مكرَّسةٌ تعتاش على هذه القيم وتنتفع منها، وستحارب بلا هوادة من أجل الإبقاء عليها..
سيبرز هنا سؤال مهم: هل يُمكِن غضُّ النظر عن هذه القيم السلبية، أو تأجيل الصدام معها وتكريس القيم الايجابية بدلاً عن ذلك؟
الحقيقة هذا أمر مستحيل رغم أن الكثيرين يحاولونه بنيَّةٍ طيبةٍ. لكن هذا لن يُجدي. القيم السلبية هي مثل الأعشاب الضارة في الحقل لا بد من اجتثاثها واستئصالها بلا هوادة لأنّ إبقاءها سيؤثِّر على نمو البذور، ستزاحم على الهواء والماء والسماد،.. وقد تلتفّ على البذور النامية وتخنقها في مهدها.. لا يمكن أن نبذر دون تنظيف الحقل أولا.. كذلك لا معنى في التركيز على القيم الايجابية دون استئصال القيم السلبية..
القيم السلبية لها أثرٌ أكبر من القيم الايجابية لأن الإنسان بطبعه منحازٌ للسلب وهي ظاهرةٌ معروفةٌ باسم الانحياز للسلبية Negativity Bias.. هل من أمثلة؟ .. بالتأكيد كلُّ ما في ديننا ونصوصنا من قيمٍ إيجابيةٍ تمّت مواجهتها بقيمٍ سلبيةٍ تنكَّرت خلف فهمٍ مجتزئ أو نصٍّ ضعيف..
قيمة الاستخلاف مثلاً- التي نصَّبت الإنسان خليفةً لله في الأرض- والتي لا مثيل لها في أيِّ ديانةٍ سابقةٍ على الإسلام.. هي قيمةٌ مهمةٌ جداً وإيجابيةٌ، وتجعل المؤمن يسعى ليكون فاعلاً في الأرض.. لكن يُقابِل تلك القيمةَ مفهومٌ في غاية السلبية يعتمد على نصوصٍ مجتزأةٍ وأخرى ضعيفةٍ أو موضوعةٍ.. مفهومٌ يقول لهذا الإنسان إنه “عابر سبيل” في هذه الأرض بدلاً من أن يكون خليفة الله الذي يعمِّرها عدلاً وتوازناً ويسيِّرها كما أراد لها خالقها أن تسير.. عابر السبيل هذا لن يهتمّ لذلك.. إنه مجرد عابر سبيل بلا وظيفةٍ ولا هدفٍ في هذه الأرض.. كأيّ عابر سبيل.. وبدلاً من مفهوم فتح العالم والاستخلاف فيه.. نشأ مفهومٌ بديلٌ يزهِّد الإنسان في ذلك كلّه، بل ويجعل من الدنيا –التي هي دار الامتحان ومزرعة الآخرة، وهي التي سيتقرَّر من خلالها مصيرنا الأخروي- يجعل من هذه الدنيا مجمعاً لكلّ الصفات السلبية الذميمة المنفِّرة.. ويمجِّد في الفقر وفي ذم الغنى.. هو فَهمٌ ما كان يمكن للمسلمين أن ينطلقوا ليفتحوا العالم ويعيدوا بناءه لو أنهم امتلكوه.. كان يُمكِن لهم أن يبقوا في شعاب مكَّة أو أطرافها وهم يتعبَّدون ويزهدون في الدنيا الذميمة المذمومة التي هم فيها ليسوا أكثر من عابري سبيلٍ في انتظار الوصول إلى الجنة..
هذا الفهم السلبيّ يمتلك أثراً أكبر من نقيضه الإيجابي الذي رسَّخه مفهوم الاستخلاف.. لماذا؟.. لأنَّ البشر ينحازون فطرياً للسلب ما لم يقُدْهم وعيهم لما هو إيجابي.. أيُّهما أسهل على الإنسان أن يتحمَّل الأمانة –الاستخلاف- ويتجشَّم عناء ذلك وجهده وجهاده .. أم أن يقتنع أنه “عابر سبيل” في مكان موحشٍ مذمومٍ وكلُّ ما عليه هو الالتزام بأداء بعض الشعائر وتجنُّب بعض المحرَّمات وكان الله يحب المحسنين..
لا يُمكن أن تنمو بذرة الاستخلاف ما لم نستأصل ونجتثَّ بذرة تهميش دور الإنسان والحطِّ من مكانته – علماً أنها لم تعد بذرةً بل هي غابةٌ من الأدغال الضارَّة التي تجثم على صدورنا مسلَّحةً بأسماء مهمَّة لعلماء وحجج إسلام وأدبياتٍ قديمةٍ ولا تزال رائجةً لأنها ترسِّخ السكون والرضا بالأمر الواقع.. ويرضي ذلك الكثير من المؤسَّسات المنتفعة من بقاء واقع الاستغلال دون مساسٍ أو تغيِّيرٍ..
لا يمكن لنهضةٍ حقّاً أن تحدث وهي تُجامِل عوامل القعود والانحطاط وتؤجِّل مواجهتها.. لا يُمكن لنهضةٍ أن تحدث دون أن تفكَّ الأغلال والسلاسل التي تسبَّبت بالانحطاط .. لا يُمكن لنهضةٍ أن تحدث دون ثمنٍ باهظٍ يُدفَع.. ثمن مواجهة ما يجب مواجهته من قيمها..
ربما كان يمكن للبغداديّ أن ينال خبزه السَّاخن اللذيذ بأبخس ثمنٍ.. لكنَّ هذا عهدٌ ولَّى وانقضى.. وما يُمكِن مع رغيف خبزٍ لن يحدث مع النهضة التي هي رغيف الأمة الحقيقيّ الذي طال انتظارها له..
عقلية “خبز باب الآغا” لا بدَّ أن تتراجع.. والباب الذي أُوصِد بيننا وبين قيمنا الحقيقية لا بد أن يُفتَح على مصراعيه..
دون ذلك لن يكون هناك نهضة..
وسنظلُّ نستورد حتى القمح الذي نصنع منه خبزنا كفاف يومنا..!!
يوجد في بغداد مثل يُضرب لمن يريد حاجةً أو سلعةً معينة بأفضل وأنفس حال وأقلّ سعرٍ في الوقت نفسه، فيقال عنه إنه يريدها مثل “خبر باب الآغا، مكسب –أي ناضج- وحارّ ورخيص” وباب الآغا هي محلة بغدادية سُمِّيت باسم أحد آغوات الانكشارية في العهد العثماني، وكانت تُعرف بأن الخبز الذي يُباع فيها جيدٌ ورخيصٌ في الوقت ذاته.. وصار المثل يُضرب على كلّ مَنْ يُمنِّي نفسه بالحصول على أقصى ما يمكن بأقلّ ما يمكن… أي الأفضل بأقلّ وأبخس سعرٍ ممكن..
لم يبقَ من محلَّة باب الآغا الكثير، فقد صارت جزءاً من شارع الرشيد، ولا يعرف من هو الآغا الذي سمِّيت باسمه تحديدا.. ذهب الآغا وذهب الانكشاريون والدولة العثمانية ولكن بقيت ذكرى ذلك الخبز الجيّد والرخيص في آنٍ واحدٍ مضرباً للأمثال على تلك العقلية التي تريد أقصى ما يمكن بأقلّ ما يمكن..
وإذا كانت محلَّة باب الآغا تتموضع جغرافياً داخل حيِّزٍ ضيِّق من بغداد، فإن عقليَّة خبز باب الآغا تمتدُّ من المحيط على الخليج على الأقلّ.. وربما أكثر من ذلك على المحور الممتدّ من طنجة إلى جاكارتا..
يذكِّرني بذلك حقيقةٌ مؤسفةٌ ألمسها لدى بعض الشباب الذين يتصوَّرون أنَّ الدرب إلى النهضة معبَّد بالزهور وأنه يمرُّ عبر الدورات التدريبية في فنادق الخمس نجوم.. وربما ببعض الرحلات التي تجمع بين النشاط الدعوى والترفيهي –الحلال.. إنهم يريدون النهضة بلا شكّ، كيف لا، وهم الجيل الذي انتشرت المفردة على لسانه،…. لكن يريدونها كما يريد الزبون البغدادي خبز باب الآغا.. بثمنٍ هو أقرب للا شيء.. يريدون النهضة لكنهم يتصوَّرونها رخيصةً وسهلة المنال.. يمكن أن تُحقَّق بلا تضحيات من أيّ نوع كانت.. بل إنهم يريدونها حتى من دون أية مواجهات.. من دون أيِّ حريقٍ كان.. حتى من دون حرق أعصاب…!
لا يمكن لوم الشباب كثيراً في هذا، أو بالأحرى لا يمكن لومهم دون لوم المعطيات الثقافية التي شكَّلتهم وشكَّلت أحلامهم على هذا النحو.. فهذه العقليَّة سائدة عند الكثير من الناشطين والدعاة العاملين في مجالات قريبة من النهضة.. صحيح أن الأمر أوضح وأفصح عند الشباب لكن هذا جزءٌ من كونهم شباباً بالتعريف..
النهضة كما يريدها ويتمناها هؤلاء هي نهضة مهذَّبة ولا تُغضِب أحداً، ولا تمسّ أيَّ مفهوم من المفاهيم الموروثة.. هناك نظرة سائدة تعامِل هذه النهضة كما تعامِل الخاطبة التقليدية البنت التي تريد الترويج لها وتزويجها لأقرب عريس محتمل.. “لها فم بياكل ما بيحكي” -كما يقول الشوام- أي إنها لا تفتح فمها لتعترض على أيّ شيء مهما كان وإنما لتأكل فقط.. وهذه هي مواصفات الزوجة المثالية أيامها ( فقط؟!).. حيث سيطمئنّ العريس إلى أنها لن تعترض على كلّ ما سيفعله…
لكنّ المواصفات المنقرضة للزوجة المثالية لا يمكن أن تنطبق على النهضة بأيّ حالٍ من الأحوال.. لا يُمكِنك أن تُرضي الجميع وفي الوقت نفسه تنجز شيئاً يتناقض مع ما يريده البعض ممن حرصت على إرضائه .. وبالتالي لا يُمكِنك أن تنجز النهضة إن لم تُغضِب بعض مَنْ يريد قعودك.. أو مَنْ تَسبَّب في قعودك في المقام الأول..
بعبارةٍ أخرى، لا يُمكِنك أن تنهض دون أن تُزيح عن كاهلك ما تَسبّب في انحطاطك ولقرونٍ طويلة.. وهنا أقصد القيم السلبية التي تنكَّرت خلف فهمٍ خاطئٍ لنصوصٍ دينيةٍ أو خلف نصوصٍ ضعيفةٍ أصلاً.. قيم تعايشت مع حالة الانحطاط التي مرَّت بها الأمة وسوّقت لتعوُّدِ الناس عليها، وكانت جزءاً من حالة السلم والرِّضا العام بها.. .هذه القيم على سلبيتها وبُعدِها عن القيم التي أرساها الإسلام في الجيل الأول.. لها نوعٌ من القداسة المزدوجة أولاً لارتباطها بنصٍّ دينيٍّ.. وثانياً لأنّ قِدَمها يمنحها قداسةً إضافيةً.. فهي جزءٌ من التراث الذي يعتزُّ به الناس، ويعتقدون أن التخلي عنه تخلٍّ عن إرثهم وهويتهم.. فكيف إذا ارتبط في أذهانهم بنصٍّ دينيٍّ مقدَّس لا ينتبهون إلى فهمه الخاطئ.. أو نصٍّ استقرّ في أذهانهم أنه دينيٌّ دون أساسٍ حقيقيٍّ.. ومن الطبيعي أن هذه القيم السلبية لها حَرَسُها القديم الذي يؤمن بها عن حقّ.. وأيضا هناك مؤسساتٌ مكرَّسةٌ تعتاش على هذه القيم وتنتفع منها، وستحارب بلا هوادة من أجل الإبقاء عليها..
سيبرز هنا سؤال مهم: هل يُمكِن غضُّ النظر عن هذه القيم السلبية، أو تأجيل الصدام معها وتكريس القيم الايجابية بدلاً عن ذلك؟
الحقيقة هذا أمر مستحيل رغم أن الكثيرين يحاولونه بنيَّةٍ طيبةٍ. لكن هذا لن يُجدي. القيم السلبية هي مثل الأعشاب الضارة في الحقل لا بد من اجتثاثها واستئصالها بلا هوادة لأنّ إبقاءها سيؤثِّر على نمو البذور، ستزاحم على الهواء والماء والسماد،.. وقد تلتفّ على البذور النامية وتخنقها في مهدها.. لا يمكن أن نبذر دون تنظيف الحقل أولا.. كذلك لا معنى في التركيز على القيم الايجابية دون استئصال القيم السلبية..
القيم السلبية لها أثرٌ أكبر من القيم الايجابية لأن الإنسان بطبعه منحازٌ للسلب وهي ظاهرةٌ معروفةٌ باسم الانحياز للسلبية Negativity Bias.. هل من أمثلة؟ .. بالتأكيد كلُّ ما في ديننا ونصوصنا من قيمٍ إيجابيةٍ تمّت مواجهتها بقيمٍ سلبيةٍ تنكَّرت خلف فهمٍ مجتزئ أو نصٍّ ضعيف..
قيمة الاستخلاف مثلاً- التي نصَّبت الإنسان خليفةً لله في الأرض- والتي لا مثيل لها في أيِّ ديانةٍ سابقةٍ على الإسلام.. هي قيمةٌ مهمةٌ جداً وإيجابيةٌ، وتجعل المؤمن يسعى ليكون فاعلاً في الأرض.. لكن يُقابِل تلك القيمةَ مفهومٌ في غاية السلبية يعتمد على نصوصٍ مجتزأةٍ وأخرى ضعيفةٍ أو موضوعةٍ.. مفهومٌ يقول لهذا الإنسان إنه “عابر سبيل” في هذه الأرض بدلاً من أن يكون خليفة الله الذي يعمِّرها عدلاً وتوازناً ويسيِّرها كما أراد لها خالقها أن تسير.. عابر السبيل هذا لن يهتمّ لذلك.. إنه مجرد عابر سبيل بلا وظيفةٍ ولا هدفٍ في هذه الأرض.. كأيّ عابر سبيل.. وبدلاً من مفهوم فتح العالم والاستخلاف فيه.. نشأ مفهومٌ بديلٌ يزهِّد الإنسان في ذلك كلّه، بل ويجعل من الدنيا –التي هي دار الامتحان ومزرعة الآخرة، وهي التي سيتقرَّر من خلالها مصيرنا الأخروي- يجعل من هذه الدنيا مجمعاً لكلّ الصفات السلبية الذميمة المنفِّرة.. ويمجِّد في الفقر وفي ذم الغنى.. هو فَهمٌ ما كان يمكن للمسلمين أن ينطلقوا ليفتحوا العالم ويعيدوا بناءه لو أنهم امتلكوه.. كان يُمكِن لهم أن يبقوا في شعاب مكَّة أو أطرافها وهم يتعبَّدون ويزهدون في الدنيا الذميمة المذمومة التي هم فيها ليسوا أكثر من عابري سبيلٍ في انتظار الوصول إلى الجنة..
هذا الفهم السلبيّ يمتلك أثراً أكبر من نقيضه الإيجابي الذي رسَّخه مفهوم الاستخلاف.. لماذا؟.. لأنَّ البشر ينحازون فطرياً للسلب ما لم يقُدْهم وعيهم لما هو إيجابي.. أيُّهما أسهل على الإنسان أن يتحمَّل الأمانة –الاستخلاف- ويتجشَّم عناء ذلك وجهده وجهاده .. أم أن يقتنع أنه “عابر سبيل” في مكان موحشٍ مذمومٍ وكلُّ ما عليه هو الالتزام بأداء بعض الشعائر وتجنُّب بعض المحرَّمات وكان الله يحب المحسنين..
لا يُمكن أن تنمو بذرة الاستخلاف ما لم نستأصل ونجتثَّ بذرة تهميش دور الإنسان والحطِّ من مكانته – علماً أنها لم تعد بذرةً بل هي غابةٌ من الأدغال الضارَّة التي تجثم على صدورنا مسلَّحةً بأسماء مهمَّة لعلماء وحجج إسلام وأدبياتٍ قديمةٍ ولا تزال رائجةً لأنها ترسِّخ السكون والرضا بالأمر الواقع.. ويرضي ذلك الكثير من المؤسَّسات المنتفعة من بقاء واقع الاستغلال دون مساسٍ أو تغيِّيرٍ..
لا يمكن لنهضةٍ حقّاً أن تحدث وهي تُجامِل عوامل القعود والانحطاط وتؤجِّل مواجهتها.. لا يُمكن لنهضةٍ أن تحدث دون أن تفكَّ الأغلال والسلاسل التي تسبَّبت بالانحطاط .. لا يُمكن لنهضةٍ أن تحدث دون ثمنٍ باهظٍ يُدفَع.. ثمن مواجهة ما يجب مواجهته من قيمها..
ربما كان يمكن للبغداديّ أن ينال خبزه السَّاخن اللذيذ بأبخس ثمنٍ.. لكنَّ هذا عهدٌ ولَّى وانقضى.. وما يُمكِن مع رغيف خبزٍ لن يحدث مع النهضة التي هي رغيف الأمة الحقيقيّ الذي طال انتظارها له..
عقلية “خبز باب الآغا” لا بدَّ أن تتراجع.. والباب الذي أُوصِد بيننا وبين قيمنا الحقيقية لا بد أن يُفتَح على مصراعيه..
دون ذلك لن يكون هناك نهضة..
وسنظلُّ نستورد حتى القمح الذي نصنع منه خبزنا كفاف يومنا..!!
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى