- فاروقمشرف منتدى الأخبار
- عدد الرسائل : 7766
العمر : 53
الأوسمة :
البلد :
نقاط : 16819
السٌّمعَة : 53
تاريخ التسجيل : 09/08/2008
"عبودية" واستغلال في قلب العاصمة!
الجمعة 12 فبراير 2016, 08:29
في مستودعات مغلقة بقلب العاصمة بعيدة عن أعين الرقابة، وفي ظروف مهنية صعبة وقاسية جدا تفتقد لأدنى شروط العمل، بل في هذه المناطق لا مكان لقانون العمل، ويختفي اسم الرئيس أو المدير، ليحل محله مصطلح "لَمعلم" و"لَمعلمة"، هنا حيث لا أهمية للسيرة الذاتية وما تحملها من شهادات وخبرات، بل وحتى هويتك الشخصية أيضا، وحدها فقط البنية الجسدية والقدرة على التحمل هي الأساس، حتى تتمكن من إرضاء رب عملك والحصول على مرتبك كاملا، دون اقتطاعات وتتفادى الطرد المباشر. "الشروق" اخترقت هذه البوابة المغلقة لتنقل معاناة شريحة تئن تحت وطأة "الحقرة"، وتنتظر لعل شمس "الكنترول" تشرق لتعيد لهم الاعتبار.
عندما قررنا الشروع في التحري حول الظروف المأساوية للعمال داخل المصانع والمستودعات المنتشرة في العاصمة، وقع اختيارنا على منطقتي بئر خادم وجسر قسنطينة، كنا نعتقد أن ما سنصادفه يتعلق بحرمانهم من بعض الحقوق أو منحهم مرتبات زهيدة مقابل عمل يوم مضن يستمر لساعات، غير أن ما اكتشفناه وما وقفنا عليه من تجاوزات في حق "الزوالية" ومواجهتهم لخطر الموت، الحرق أو الإعاقة يوميا، كان أكبر بكثير، لنصل إلى حقائق أخرى تتعلق بصحة وسلامة المواطنين.
كان يوما ممطرا لما توجهنا صباحا لأحد مصانع المآخذ والموصلات الكهربائية، بعد أن قص علينا العاملون والعاملات فيه حكايات عن الظلم والاستغلال البشع الذي يتعرضون إليه، انتحلنا صفة الباحثين عن العمل ودخلنا للاستفسار فطلبت منا المكلفة بالعودة في اليوم الموالي وجلب الملف لمباشرة العمل، مؤكدة لنا أن الدوام يبدأ على الساعة 8 صباحا إلى غاية 16:30، وهناك استراحة لنصف ساعة لتناول وجبة الغذاء في المطعم التابع للمصنع، غادرناه ونحن متيقنون أن ما بداخله يفوق ما سمعناه بكثير، وعند المخرج التقينا بإحدى العاملات فيه فأخبرناها أننا سنباشر العمل غدا، ولا نملك أدنى فكرة عن أجواء العمل، فردت علينا إذا كانت أمامنا خيارات فالأفضل أن لا نعود، فهنا "يمصون دم وجلد العمال" مثلما قالته، مواصلة أن العاملة الواحدة في قسم التركيب مضطرة لصنع 1500 قطعة يوميا حتى تحصل على أجرها الشهري كاملا ،والمقدر بـ 18 ألف دينار.
ومع أن الضمان الاجتماعي موجود والمطعم مثلما قيل لنا موجود أيضا، غير أن المدة قليلةـ نصف ساعة فقط تقدم فيها وجبة باردة عبارة عن قطعة من الخبز والتونة والجبن أو الكاشيرـ حتى إن الكثير من العاملات أصبن بتسممات جراء هذا الأكل، ولم تتوقف المعاناة عند هذا الحد، فالعاملات مرغمات على التزام أماكنهن وعدم مغادرتها، وفي حال رغبن في التوجه للمرحاض، فعليهن استئذان المشرفة، والحديث والهاتف ممنوعان خلال فترة العمل.
مستودعات مغلقة في وجه الرقابة مفتوحة للعاملين
ما عايشناه في مصنع ينشط بطريقة قانونية، وما يحدث فيه من مخالفات واستغلال للطبقة الكادحة، زادنا عزما وإصرارا على المضي في تحقيقنا واختراق أبواب المستودعات المغلقة، لما وصلنا لوجهتنا الثانية، وجدنا معظمها عبارة عن فيلات في طور الإنجاز ويقع أسفلها مستودعات، واصلنا المشي وسط الطين حيث كانت جميع الأبواب بألوانها المختلفة خضراء، صفراء، بنية جميعها موصدة حتى إنه يخيل للرائي ألا وجود لأحد في الداخل، غير أننا ولحسن حظنا كنا مرفوقين بإحدى العارفات بالمنطقة، وبهذه المصانع الصغيرة أو التي تسمى "فابريكات" بالعامية.
وللتحقق أكثر، استعنا بصاحب محل لبيع المواد الغذائية فرد علينا : "أنتن في العنوان الصحيح، هنا توجد مصانع لكل شيء: الحلويات التقليدية، قلب اللوز، ليمادلان، السميد، الخبز بمختلف أنواعه لبناني خبز الدار، الشعير، الزيتون، الخل والماء زهر، العسل، واش نزيدلك؟؟؟ كلش كاين هنا"، وأضاف محدثنا "ما تخافوش هوما يخدمو والبيبان مغلوقين يخافوا من "الكنترول" طبطبوا على الباب مليح يفتحولكم، مكملا أن هذه المنطقة هي قبلة الباحثين عن العمل، ويقصدها يوميا العشرات ممن يسألونه نفس سؤالنا".
فتيات أصبن بأمراض في الظهر جراء حمل "الكراتين" الثقيلة
دخلنا مستودعا صغيرا مخصصا لوزن الحبوب الجافة من "عدس، لوبياء، بازلاء مجففة، حمص"، تحدثنا إلى إحدى العاملات فأخبرناها بأننا بصدد البحث عن عمل، لترد علينا بأن "المعلم" غير موجود، وعلينا العودة في الصباح الباكر فهو يغادر قبل العاشرة، حاولنا تجاذب أطراف الحديث معها واستفسرناها عن طبيعة الملف والوثائق الواجب علينا جلبها، فردت لا داعي لذلك، وهو ما أثار ريبتنا، لتبدد شكوكنا بقولها "كي تتفاهمي معاه من بعد ساهل".
وعن طبيعة العمل، قالت لنا مثلما تشاهدن تجلسن على هذه الطاولة، وتقمن بوزن واحد كيلوغرام من الحبوب الجافة في كيس بلاستيكي شفاف، ثم يربط ويوضع في "كارطون"، وتضعن عليه ملصقا يحمل طبيعة المنتج، ظننا أن العمل يقتصر على هذا الحد، غير أن الفتيات كن يحملن "الكراتين" الثقيلة، بل وهن أيضا من يقمن بوضعها في الشاحنة. وعن مواقيت العمل، أجابت إحدى العاملات بأنها تبدأ على الساعة الثامنة صباحا إلى غاية الرابعة مساء طوال الأسبوع، ماعدا الجمعة، مقابل 600 دج، معترفة لنا بأنها أصيبت بمشاكل في الظهر والكتف جراء حمل الوزن الثقيل، غير أنها مضطرة للعمل حتى تؤمن حاجيات عائلاتها ومصروفها اليومي، وما زاد من دهشتنا، أن محدثتنا مستواها التعليمي ثانية ثانوي شعبة آداب، وقد درست عدة تخصصات في التكوين المهني ،لكن الحظ لم يحالفها في إيجاد وظيفة، بعد أن طردوها من وظيفتها في عقود ما قبل التشغيل "آنام"، مصرحة أن الاستغلال هو نفسه هنا أو في أي منطقة أخرى.
11 ساعة عمل مقابل ألف دينار وقصر ومسنون في المستودعات
بدأنا نشعر بالتعب جراء تنقلاتنا المستمرة، لكننا أصررنا على إكمال موضوعنا وعدم تأجيله، لتكون وجهتنا هذه المرة مستودع خاص بصناعة العجائن، طرقنا الباب لنجد أنفسنا داخل عالم آخر، حيث الحرارة في الخارج في حدود 16 درجة، أما داخله فتفوق 40 درجة، وما شد انتباهنا للوهلة الأولى، هو عدم وجود نوافذ للتهوية واستبدالها بمراوح لتبديد الهواء الساخن والدخان، مع انعدام تام لأدنى شروط النظافة، فالأرضية متسخة والفئران والصراصير تصول وتجول في المنطقة، ومثل سابقيهم طلبوا منا عدم جلب الملف، والذي يبدو أن لا أهمية ولا قيمة له، وعلينا القدوم غدا باكرا لمباشرة العمل من 7 صباحا موعد تحضير العجين إلى غاية السادسة مساء لقاء 1000 دج، في اليوم الواحد طوال الأسبوع وحتى الجمعة أحيانا.
ولأنه تم قبولنا، طلبنا من صاحب العمل التعرف أكثر على طبيعته وكيفيته، فشرح لنا أن مهمتنا هي إغلاق الأكياس البلاستيكية ووضعها في "كراتين" ثم جمع الكراتين. بدت لنا المهمة سهلة فشرعنا في العمل مباشرة، غير أننا اكتشفنا أننا نعمل واقفين بدون كراسيّ، والحشرات والحيوانات من تحتنا، وما زاد الطين بلة هو سخط صاحب العمل وشتمه للجميع دون سبب، ومنهم شيوخ وحتى أطفال قصر، وكان لنا نصيبنا بعد أن عبر عن امتعاضه من طريقة عملنا البطيئة، بالرغم من أنها أول مرة، وعدم سماحه لنا بالحديث في الهاتف، حيث قال لنا : "اللي تحب تهدر فالتيليفون تروح لدارهم وتهدر".
لا أثر للمياه.. والمراحيض لتحضير العجين
وجودنا في المستودع شجعنا على التحدث لبعض العاملات التي اعترفت لنا بأن الجميع في هذه المهن غير ثابتين، ويتنقلون من وظيفة لأخرى، وقد جربوا العمل في جميع المستودعات الموجودة في المنطقة، فجميعها تتشابه، وبداخلها تغيب الإنسانية، فالعمل ثم العمل، وقد تحولوا لآلات يعملون في الصباح الباكر ليحضرون العجينة، ويغادرون والليل شارف على إسدال ستاره، فصاحب العمل لا يعرف حتى أساميهم، ويناديهم "أنتي.. ويا طفلة"، ولا يسمح لهم بتناول وجبة الغذاء، ويعملون على مدار اليوم واقفين على أقدامهم مثلما كان حالنا، ولما شعرنا بالعطش أخبرتنا أنه لا يوجد ماء، وكان علينا جلب مياه معدنية لنشربها، وهو ما جعلنا نتساءل عن مصدر الماء الذي تحضر به العجين، ليكون ردها بأنها مصنوعة من مياه المرحاض، وحذرتنا من الدخول للمرحاض دون استئذان من صاحب العمل أو نائبه. وأي سكب لأي مادة سواء فرينة أو زيت أو صابون فيعرض صاحبه للطرد دون استلام مرتبه، وكشفت محدثتنا أن إحدى صديقاتها أصابها الفرن بحروق من الدرجة الثالثة، فذهبت بمفردها للمستشفى، ولم يدفع لها رب العمل ثمن العلاج أو حتى تعويضا، بل الأدهى من هذا فصلها من العملـ ورفض عودتها مرة أخرى. لتقلب عينيها الصغيرتين وتكمل وراء كل فتاة رجل وطفل، هنا قصة مؤثرة لا أحد يعرف كيف نعيش في بيوتنا، ولا يوجد من لا يحب الراحة.
لم نقو على التحمل أكثر، كان الوقت بطيئا جدا، فالساعة لم تكد تمر حتى إنها كانت أشبه بساعة في الجحيم، فالحرارة شديدة، والحشرات من كل الجهات، شعرنا بالاختناق فطلبنا المغادرة لإعلام عائلتنا بأننا تمكنا من إيجاد عمل والعودة في اليوم الموالي.
العمل بـ 600 دج لليوم أفضل من البطالة
بعد أن أخذ منا التعب مأخذه ونال منا، وكانت العديد من المستودعات لم ندخلها بعد ولم نزرها، مررنا في طريقنا على مستودع للخل وماء الزهر، فبداخله يتم تعبئة القارورات، طرقنا الباب ففتحت لنا إحدى الفتيات لا يزيد عمرها عن العشرين عاما، كانت تعمل في الداخل رفقة فتاتين أخريين تجلسان على الأرض، وتقومان بإلصاق العلامات اللاصقة على القارورات الفارغة والشفافة.
وبعد أن قلنا لهن بأننا نبحث عن عمل، ردت علينا إحداهن بأن "لمعلمة" غير موجودة، وعلينا ترك أرقامنا الهاتفية مثل سابقيهم فتركنا الرقم، وبدأنا نتحدث معهن عن طبيعة العمل والتي تكون بداية من الثامنة صباحا إلى غاية الرابعة طوال أيام الأسبوع، ماعدا مساء الخميس والجمعة، مقابل 600 دج لليوم الواحد، ولكن بدون تأمين، وأردفت الفتيات بأن العمل يتلخص في وضع القصاصات على القارورات ثم ملئها بالسائل المناسب، خل أو ماء الزهر، ووضعها في الآلة لتغليفها، ثم تحميلها في الشاحنات، وبالرغم من الظروف الصعبة والقاسية لكنهن أبدين رضاهن فهو أفضل من البطالة.
أسرار المستودعات المغلقة
ما وقفنا عليه في موضوعنا من استغلال بشع لفئات من المواطنين يصنفون خارج إطار فئة العمال، فهم لا يملكون أدنى حقوق، وحدها الواجبات والعمل حولهم لآلة، فهذه المستودعات المغلقة والتي حولت أصحابها لأثرياء بعرق وتعب العمال البسطاء، لم يضمنوا لهم حتى حقهم في الضمان الاجتماعي، بل إن بعضهم أصيبوا بعاهات وحروق وتمت مكافأتهم بفصلهم عن العمل، وما يغلب على أصحاب هذه المستودعات، أنهم يستغلون الجميع، قصرا شيوخا وعجائز بدون رحمة أو شفقة، ويبقون أبواب المستودعات مغلقة طيلة الفترة الصباحية، ولا يفتحونها إلا بعد الثانية زوالا، بعد أن يطمئنوا بعدم وجود أعوان الرقابة.
ونحن في طريق العودة بعد هذا اليوم المضني والشاق، التقينا بفتيات استفسرننا عن بعض المستودعات، فعلمنا أنهن يبحثن عن العمل فأرشدناهن، وأكملنا طريقنا ونحن نسترجع صور الفتيات الجالسات أرضا، والأخريات الواقفات وهن يبتسمن ابتسامة الرضا، ولسان حالهن يقول: "تعبنا".. أفضل من مد اليد.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى