- rababعضو خبير متطور
- عدد الرسائل : 1096
الأوسمة :
البلد :
نقاط : 367
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/06/2008
حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم و التوسل به
الخميس 17 يوليو 2008, 17:28
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني، مَنَحني الله و إياهُ الفقهَ في الدين، و أعاذنا جميعا من طريق المغضوب عليهم و الضالين، آمين. سلام عليكم و رحمة الله و بركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابُكم وَصَلَكُم الله بحبلِ الهدى و التوفيق، و جميعُ ما شرحتم كان معلوما.
و قد وَقَعَ في كتابكم أمورٌ تحتاج إلى كشفٍ و إيضاح، و إزالةِ ما قد وقع لكم من الشبهة عملا بقول النبي صلى الله عليه و سلم: ((الدين النصيحة))[1]، و قوله صلى الله عليه و سلم: (( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ))[2]، و غيرهما من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
و قد أرشد إلى ذلك مولانا سبحانه في قوله عز و جل: " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى "[3]، و قوله سبحانه: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "[4]؛ فأقول: ذكرتم في كتابكم ما نصه: ( و مع احترامي و تقديري لجهودكم في هذا السبيل خَطَرَ ببالي بعضُ الملاحظات، أحببت أن أُبدِيها لكم راجيا أن يكون فيها خير الإسلام و المسلمين، و الاعتصامُ بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين، و وحدة صفوفهم في مجال العقيدة و الشريعة.
أولاً: لاحظتكم تُعَبِّرون دائما عن بعض ما شاع بين المسلمين من التبرُّك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم و آله، و بعض الأولياء، كمسح الجدران و الأبواب في الحرم النبوي الشريف و غيره شِركا، و عبادةً لغير الله. و كذلك طلبُ الحاجات منه و منهم، و دعاؤُهم و ما إلى ذلك.
إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطَلَبُ الحاجات من النبي و من الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شِركٌ جَلِي لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، و التي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي، من غير فَرْقٍ بين مذهب و آخرَ، ليست هي في جوهرها طلبا للحاجات من النبي و الأولياء، و لا اتخاذِهم أربابا من دون الله، بل مَرَدُّ ذلك كلِّه - لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام - إلى أحد أمرين: التبرك و التوسل بالنبي و آثاره، أو بغيره من المقربين إلى الله عز و جل.
أما التبرك بآثار النبي من غير طلب الحاجة منه، و لا دُعَائِهِ فَمنْشَأُهُ الحُبُّ و الشوق الأكيد، رجاءَ أن يَعطِيَهُمُ اللهُ الخيرَ بالتقرب إلى نبيه، و إظهارِ المحبة له، و كذلك بآثار غيرِهِ من المقربين عند الله.
و إني لا أجد مسلماً يعتقد أن البابَ و الجدارَ يقضيان الحاجات، و لا أن النبي أو الوليَ يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلا الله، إكراماً لنبيه أو لأحد من أوليائه، أن يُفِيضَ الله عليه من بركاته، و التبرُّكُ بآثار النبي كما تعلمون و يعلَمُه كل من اطَّلَع على سِيرة النبي صلى الله عليه و سلم، كان معمولاً به في عهد النبي، فكانوا يتبركون بماء وُضُوئِه، و ثوبِه و طعامِه و شرابِه و شعره، و كلِّ شيء منه و لم يَنْهَهُم النبي عنه، و لعلكم تقولون: أجل كان هذا، و هو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء و الأتقياء لكنه خاص بالأحياء دون الأموات لعدم وجود دليل على جوازه إلا في حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبي بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يمسح منبر النبي تبرُّكاً به.
و هناك شواهد على أنهم كانوا يحتفظون بشعر النبي، كما كان الخلفاء العباسيون و مِن بعدِهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبي تبركاً به و لا سيما في الحروب، و لم يمنعهم أحدٌ من العلماء الكبارِ و الفقهاءِ المعترف بفقههم و دينهم.. انتهى المقصود من كلامكم)
و الجواب أن يقال: ما ذكرتم فيه تفصيل: فأما التَّبركُ بما مَسَّ جسدَه عليه الصلاة و السلام من وضوءٍ أو عَرَقٍ أو شعرٍ و نحو ذلك، فهذا أمر معروف و جائز عند الصحابة رضي الله عنهم، و أتباعِهِم بإحسانٍ لِما في ذلك من الخير و البركة، و هذا أَقَرَّهم النبي صلى الله عليه و سلم عليه.
فأما التَّمسُّح بالأبواب و الجدران و الشبابيك و نحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعةٌ لا أصلَ لها، و الواجبُ تركُها؛ لأن العبادات توقيفيةٌ لا يجوز منها إلا ما أقره الشرعُ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))[5] متفق على صحته، و في رواية لمسلم و عَلَّقها البخاري رحمه الله في صحيحه جازِما بها: (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ))[6]، و في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته يوم الجمعة: (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، و خيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم، و شرَّ الأمور محدثاتُها، و كلَّ بدعة ضلالةٌ ))[7]، و الأحاديث في ذلك كثيرةٌ؛ فالواجبُ على المسلمين التقَيُّدُ في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود و تقبيلِهِ، و استلامِ الركن اليماني.
و لهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ: ( إني أعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ و لا تنفع، و لولا أني رأيت النبيَّ صلى الله عليه و سلم يُقَبِّلُكَ ما قبلتُك )[8]. و بذلك يُعلَم أن استلامَ بقية أركان الكعبة، و بقيةِ الجُدران و الأعمدة غيرُ مشروعٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله و لم يُرشد إليه، و لأن ذلك من وسائل الشرك. و هكذا الجدران و الأعمدة و الشبابيك و جدران الحجرة النبوية من باب أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يُشَرِّع ذلك و لم يُرشِد إليه و لم يَفعله أصحابة رضي الله عنهم.
و أما ما نُقِلَ عن ابن عمر رضي الله عنهما من تتبع آثار النبي صلى الله عليه و سلم و استلامِه المنبَرَ فهذا اجتهادٌ منه رضي الله عنه لم يوافقهُ عليه أَبُوهُ و لا غيرُه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، و هم أعلم ُمنه بهذا الأمر، و عِلْمُهُم موافقٌ لما دلت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ.
و قد قطع عمر رضي الله عنه الشجرةَ التي بُويِعَ تحتَها النبي صلى الله عليه و سلم في الحُديبية لما بَلَغه أنَّ بعضَ الناس يذهبون إليها و يُصَلُّون عندها؛ خوفاً من الفتنة بها و سَدّا للذريعة.
و أما دعاءُ الأنبياء و الأولياء و الاستغاثةُ بهم و النَّذرُ لهم و نحوُ ذلك فهو الشركُ الأكبرُ، و هو الذي كان يفعلُه كفارُ قريش مع أصنامهم و أوثانهم، و هكذا بقيةُ المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، و تُقَرِّبُهُم إليه زُلفى، و لم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم و تشفي مرضاهم و تنصُرُهُم على عَدُوّهم، كما بَيَّنَ الله سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: " وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ "، فَرَدَّ عليهم سبحانه بقوله: " قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ "[9]، و قال عز ّو جل في سورة الزمر: " فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ "[10].
فأبَانَ سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفارَ لم يَقْصِدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجَهم، و إنما أرادوا منهم أنهم يُقَربُونهم إلى الله زُلفى، فأَكْذَبَهُم سبحانه و رَدَّ عليهم قولَهم بقوله سبحانه: " إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ " فسماهم كَذَبَةً و كُفّارا بهذا الأمر؛ فالواجبُ على مِثلِكم تَدَبُّرُ هذا المقام و إعطاؤُه ما يستحق من العناية.و يدل على كفرهم أيضاً بهذا الإعتقاد، قولُه سبحانه: " وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ "[11]، فسماهم في هذه الآية كفارا و حَكَمَ عليهم بذلك لمُجَرَّد الدعاء لغير الله مِن الأنبياء و الملائكة و الجِن و غيرِهم، و يَدُلُّ على ذلك أيضا قولُه سبحانه في سورة فاطر: " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ "[12]، فَكَمَ سبحانه بهذه الآية على أن دعاءَ المشركين لغيرِ الله من الأنبياء و الأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شركٌ، و الآياتُ في هذا المعنى لمن تدبَّر كتابَ الله كثيرةٌ.و ننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ص 157 ج 1 ما نصه: ( و المشركون الذين وَصَفَهُم اللهُ و رسولُه بالشرك أصلُهُم صنفان: قومُ نوح، و قومُ إبراهيم. فقوم نوح كان أصلُ شِركِهِم العكوفُ على قبور الصالحين ثم صَوَّرُوا تماثيلَهم، ثم عبدوهُم، و قومُ إبراهيم كان أصلُ شركِهِم عبادةُ الكواكب و الشمس و القمرِ، و كلٌّ من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تُخَاطبُهم، و تُعينُهُم على أشياءَ، و قد يَعتَقِدون أنهم يعبدون الملائكةَ، و إنْ كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجنَّ همُ الذين يُعِينُونَهم، و يَرْضَون بشركهم قال الله تعالى: " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ "[13]، و الملائكةُ لا تعينُهُم على الشرك لا في المحيا و لا في الممات و لا يَرضَوْن بذلك، و لكنَّ الشياطينَ قد تُعينُهم و تَتصوَّرُ لهم في صُوَرِ الآدميين، فيَرَوْنَهم بأعيُنِهم و يقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان، و قد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، و يكون أولئك كُلُّهم جِنا، يشهَدُ بعضهم لبعضٍ، و الجنُّ كالإنس فمِنهم الكافرُ، و منهم الفاسقُ، و منهم العابد الجاهلُ، فمنهم من يُحِب شيخًا فَيَتَزيَّا في صورَتِه و يقول: أنا فلان، و يكون ذلك في برية و مكان قَفْرٍ، فيُطعِمُ ذلك الشخصَ طعاما و يسقيه شرابا، أو يَدُلُّه على الطريق، أو يُخبِرُه ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفسَ الشيخ الميِّت أو الحي فَعَلَ ذلك، و قد يقول: هذا سِرُّ الشيخ و هذه رَقِيقَتُه، و هذه حَقيقته، أو هذا مَلَكٌ جاء على صورَته، و إنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكةَ لا تُعِين على الشِّرك و الإفك، و الإثمِ و العدوانِ. و قد قال الله تعالى: " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا "[14]، قال طائفة من السلف: كان أقوامٌ يدعون الملائكةَ و الأنبياءَ و عزيرَ و المسيحَ، فبيَّنَ اللهُ تعالى أن الملائكةَ و الأنبياءَ عبادُ الله؛ كما أن الذين يعبدونهم عبادُ الله، و بَيَّنَ أنهم يرجون رحمتَه و يخافون عذابَه و يَتَقَرَّبون إليه كما يفعلُ سائرُ عبادِهِ الصالحين. و المشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نَسْتَشْفِعُ بهم، أيْ نطلُبُ من الملائكة و الأنبياء أن يَشْفَعوا، فإذا أتينا قَبرَ أحدِهِم طلبنا منه أن يَشفَعَ لنا، فإذا صَوَّرْنَا تِمْثَالَه - و التماثيلُ إما مُجسدَةٌ و إما تماثيلُ مصوَّرَةٌ كما يُصَوِّرها النصارى في كنائسهم - قالوا: فمقصودُنا بهذه التماثيل تَذَكُّرُ أصحابِها و سِيَرِهِم، و نحن نُخاطب هذه التماثيلَ و مَقصودُنا خطابُ أصحابِها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدُهُم: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس، أو بطرس، أو يا ستي الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل، أو موسى بن عمران، أو غير ذلك اشفع لي إلى ربك.و قد يخاطبون الميِّتَ عند قبره: سَلْ لي ربَّك، أو يخاطبون الحيَّ و هو غائبٌ كما يُخَاطبونَه لو كان حاضراً حياً، و يُنشِدُون قصائدَ يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حسبك أنا في جوارك اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن يَنصُرَنا على عدونا، سلِ الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا و كذا، فسلِ اللهَ أن يكشِفَ هذه الكُربةَ. أو يقول أحدهم: سلِ الله أن يغفر لي. و منهم من يتأول قوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا "[15]، و يقولون: إذا طلبنا منه الاستغفارَ بعد مَوْتِه كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة.و يُخالفون بذلك إجماعَ الصحابة و التابعين لهم بإحسان، و سائِر المسلمين، فإنَّ أحدا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه و سلم بعد موته أن يشفَعَ له، و لا سألَه شيئا، و لا ذكر ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين في كُتُبهم، إنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، و حَكَوْا حكايةً مكذوبةً على مالك رضي الله عنه، سيأتي ذكرها، و بَسْطُ الكلام عليها إن شاء الله تعالى.فهذه الأنواع من خِطاب الملائكة و الأنبياء و الصالحين بعد موتهم عند قبورهم و في مغيبهم، و خِطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، مِن غير أهل الكتاب، و في مبتدعةِ أهل الكتاب و المسلمين الذين أحدَثوا من الشرك و العبادات ما لم يأْذن به اللهُ تعالى، قال تعالى: " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[16]...)
فقد وصلني كتابُكم وَصَلَكُم الله بحبلِ الهدى و التوفيق، و جميعُ ما شرحتم كان معلوما.
و قد وَقَعَ في كتابكم أمورٌ تحتاج إلى كشفٍ و إيضاح، و إزالةِ ما قد وقع لكم من الشبهة عملا بقول النبي صلى الله عليه و سلم: ((الدين النصيحة))[1]، و قوله صلى الله عليه و سلم: (( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ))[2]، و غيرهما من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
و قد أرشد إلى ذلك مولانا سبحانه في قوله عز و جل: " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى "[3]، و قوله سبحانه: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "[4]؛ فأقول: ذكرتم في كتابكم ما نصه: ( و مع احترامي و تقديري لجهودكم في هذا السبيل خَطَرَ ببالي بعضُ الملاحظات، أحببت أن أُبدِيها لكم راجيا أن يكون فيها خير الإسلام و المسلمين، و الاعتصامُ بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين، و وحدة صفوفهم في مجال العقيدة و الشريعة.
أولاً: لاحظتكم تُعَبِّرون دائما عن بعض ما شاع بين المسلمين من التبرُّك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم و آله، و بعض الأولياء، كمسح الجدران و الأبواب في الحرم النبوي الشريف و غيره شِركا، و عبادةً لغير الله. و كذلك طلبُ الحاجات منه و منهم، و دعاؤُهم و ما إلى ذلك.
إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطَلَبُ الحاجات من النبي و من الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شِركٌ جَلِي لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، و التي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي، من غير فَرْقٍ بين مذهب و آخرَ، ليست هي في جوهرها طلبا للحاجات من النبي و الأولياء، و لا اتخاذِهم أربابا من دون الله، بل مَرَدُّ ذلك كلِّه - لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام - إلى أحد أمرين: التبرك و التوسل بالنبي و آثاره، أو بغيره من المقربين إلى الله عز و جل.
أما التبرك بآثار النبي من غير طلب الحاجة منه، و لا دُعَائِهِ فَمنْشَأُهُ الحُبُّ و الشوق الأكيد، رجاءَ أن يَعطِيَهُمُ اللهُ الخيرَ بالتقرب إلى نبيه، و إظهارِ المحبة له، و كذلك بآثار غيرِهِ من المقربين عند الله.
و إني لا أجد مسلماً يعتقد أن البابَ و الجدارَ يقضيان الحاجات، و لا أن النبي أو الوليَ يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلا الله، إكراماً لنبيه أو لأحد من أوليائه، أن يُفِيضَ الله عليه من بركاته، و التبرُّكُ بآثار النبي كما تعلمون و يعلَمُه كل من اطَّلَع على سِيرة النبي صلى الله عليه و سلم، كان معمولاً به في عهد النبي، فكانوا يتبركون بماء وُضُوئِه، و ثوبِه و طعامِه و شرابِه و شعره، و كلِّ شيء منه و لم يَنْهَهُم النبي عنه، و لعلكم تقولون: أجل كان هذا، و هو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء و الأتقياء لكنه خاص بالأحياء دون الأموات لعدم وجود دليل على جوازه إلا في حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبي بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يمسح منبر النبي تبرُّكاً به.
و هناك شواهد على أنهم كانوا يحتفظون بشعر النبي، كما كان الخلفاء العباسيون و مِن بعدِهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبي تبركاً به و لا سيما في الحروب، و لم يمنعهم أحدٌ من العلماء الكبارِ و الفقهاءِ المعترف بفقههم و دينهم.. انتهى المقصود من كلامكم)
و الجواب أن يقال: ما ذكرتم فيه تفصيل: فأما التَّبركُ بما مَسَّ جسدَه عليه الصلاة و السلام من وضوءٍ أو عَرَقٍ أو شعرٍ و نحو ذلك، فهذا أمر معروف و جائز عند الصحابة رضي الله عنهم، و أتباعِهِم بإحسانٍ لِما في ذلك من الخير و البركة، و هذا أَقَرَّهم النبي صلى الله عليه و سلم عليه.
فأما التَّمسُّح بالأبواب و الجدران و الشبابيك و نحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعةٌ لا أصلَ لها، و الواجبُ تركُها؛ لأن العبادات توقيفيةٌ لا يجوز منها إلا ما أقره الشرعُ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))[5] متفق على صحته، و في رواية لمسلم و عَلَّقها البخاري رحمه الله في صحيحه جازِما بها: (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ))[6]، و في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته يوم الجمعة: (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، و خيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم، و شرَّ الأمور محدثاتُها، و كلَّ بدعة ضلالةٌ ))[7]، و الأحاديث في ذلك كثيرةٌ؛ فالواجبُ على المسلمين التقَيُّدُ في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود و تقبيلِهِ، و استلامِ الركن اليماني.
و لهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ: ( إني أعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ و لا تنفع، و لولا أني رأيت النبيَّ صلى الله عليه و سلم يُقَبِّلُكَ ما قبلتُك )[8]. و بذلك يُعلَم أن استلامَ بقية أركان الكعبة، و بقيةِ الجُدران و الأعمدة غيرُ مشروعٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله و لم يُرشد إليه، و لأن ذلك من وسائل الشرك. و هكذا الجدران و الأعمدة و الشبابيك و جدران الحجرة النبوية من باب أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يُشَرِّع ذلك و لم يُرشِد إليه و لم يَفعله أصحابة رضي الله عنهم.
و أما ما نُقِلَ عن ابن عمر رضي الله عنهما من تتبع آثار النبي صلى الله عليه و سلم و استلامِه المنبَرَ فهذا اجتهادٌ منه رضي الله عنه لم يوافقهُ عليه أَبُوهُ و لا غيرُه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، و هم أعلم ُمنه بهذا الأمر، و عِلْمُهُم موافقٌ لما دلت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ.
و قد قطع عمر رضي الله عنه الشجرةَ التي بُويِعَ تحتَها النبي صلى الله عليه و سلم في الحُديبية لما بَلَغه أنَّ بعضَ الناس يذهبون إليها و يُصَلُّون عندها؛ خوفاً من الفتنة بها و سَدّا للذريعة.
و أما دعاءُ الأنبياء و الأولياء و الاستغاثةُ بهم و النَّذرُ لهم و نحوُ ذلك فهو الشركُ الأكبرُ، و هو الذي كان يفعلُه كفارُ قريش مع أصنامهم و أوثانهم، و هكذا بقيةُ المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، و تُقَرِّبُهُم إليه زُلفى، و لم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم و تشفي مرضاهم و تنصُرُهُم على عَدُوّهم، كما بَيَّنَ الله سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: " وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ "، فَرَدَّ عليهم سبحانه بقوله: " قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ "[9]، و قال عز ّو جل في سورة الزمر: " فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ "[10].
فأبَانَ سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفارَ لم يَقْصِدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجَهم، و إنما أرادوا منهم أنهم يُقَربُونهم إلى الله زُلفى، فأَكْذَبَهُم سبحانه و رَدَّ عليهم قولَهم بقوله سبحانه: " إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ " فسماهم كَذَبَةً و كُفّارا بهذا الأمر؛ فالواجبُ على مِثلِكم تَدَبُّرُ هذا المقام و إعطاؤُه ما يستحق من العناية.و يدل على كفرهم أيضاً بهذا الإعتقاد، قولُه سبحانه: " وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ "[11]، فسماهم في هذه الآية كفارا و حَكَمَ عليهم بذلك لمُجَرَّد الدعاء لغير الله مِن الأنبياء و الملائكة و الجِن و غيرِهم، و يَدُلُّ على ذلك أيضا قولُه سبحانه في سورة فاطر: " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ "[12]، فَكَمَ سبحانه بهذه الآية على أن دعاءَ المشركين لغيرِ الله من الأنبياء و الأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شركٌ، و الآياتُ في هذا المعنى لمن تدبَّر كتابَ الله كثيرةٌ.و ننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ص 157 ج 1 ما نصه: ( و المشركون الذين وَصَفَهُم اللهُ و رسولُه بالشرك أصلُهُم صنفان: قومُ نوح، و قومُ إبراهيم. فقوم نوح كان أصلُ شِركِهِم العكوفُ على قبور الصالحين ثم صَوَّرُوا تماثيلَهم، ثم عبدوهُم، و قومُ إبراهيم كان أصلُ شركِهِم عبادةُ الكواكب و الشمس و القمرِ، و كلٌّ من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تُخَاطبُهم، و تُعينُهُم على أشياءَ، و قد يَعتَقِدون أنهم يعبدون الملائكةَ، و إنْ كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجنَّ همُ الذين يُعِينُونَهم، و يَرْضَون بشركهم قال الله تعالى: " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ "[13]، و الملائكةُ لا تعينُهُم على الشرك لا في المحيا و لا في الممات و لا يَرضَوْن بذلك، و لكنَّ الشياطينَ قد تُعينُهم و تَتصوَّرُ لهم في صُوَرِ الآدميين، فيَرَوْنَهم بأعيُنِهم و يقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان، و قد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، و يكون أولئك كُلُّهم جِنا، يشهَدُ بعضهم لبعضٍ، و الجنُّ كالإنس فمِنهم الكافرُ، و منهم الفاسقُ، و منهم العابد الجاهلُ، فمنهم من يُحِب شيخًا فَيَتَزيَّا في صورَتِه و يقول: أنا فلان، و يكون ذلك في برية و مكان قَفْرٍ، فيُطعِمُ ذلك الشخصَ طعاما و يسقيه شرابا، أو يَدُلُّه على الطريق، أو يُخبِرُه ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفسَ الشيخ الميِّت أو الحي فَعَلَ ذلك، و قد يقول: هذا سِرُّ الشيخ و هذه رَقِيقَتُه، و هذه حَقيقته، أو هذا مَلَكٌ جاء على صورَته، و إنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكةَ لا تُعِين على الشِّرك و الإفك، و الإثمِ و العدوانِ. و قد قال الله تعالى: " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا "[14]، قال طائفة من السلف: كان أقوامٌ يدعون الملائكةَ و الأنبياءَ و عزيرَ و المسيحَ، فبيَّنَ اللهُ تعالى أن الملائكةَ و الأنبياءَ عبادُ الله؛ كما أن الذين يعبدونهم عبادُ الله، و بَيَّنَ أنهم يرجون رحمتَه و يخافون عذابَه و يَتَقَرَّبون إليه كما يفعلُ سائرُ عبادِهِ الصالحين. و المشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نَسْتَشْفِعُ بهم، أيْ نطلُبُ من الملائكة و الأنبياء أن يَشْفَعوا، فإذا أتينا قَبرَ أحدِهِم طلبنا منه أن يَشفَعَ لنا، فإذا صَوَّرْنَا تِمْثَالَه - و التماثيلُ إما مُجسدَةٌ و إما تماثيلُ مصوَّرَةٌ كما يُصَوِّرها النصارى في كنائسهم - قالوا: فمقصودُنا بهذه التماثيل تَذَكُّرُ أصحابِها و سِيَرِهِم، و نحن نُخاطب هذه التماثيلَ و مَقصودُنا خطابُ أصحابِها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدُهُم: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس، أو بطرس، أو يا ستي الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل، أو موسى بن عمران، أو غير ذلك اشفع لي إلى ربك.و قد يخاطبون الميِّتَ عند قبره: سَلْ لي ربَّك، أو يخاطبون الحيَّ و هو غائبٌ كما يُخَاطبونَه لو كان حاضراً حياً، و يُنشِدُون قصائدَ يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حسبك أنا في جوارك اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن يَنصُرَنا على عدونا، سلِ الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا و كذا، فسلِ اللهَ أن يكشِفَ هذه الكُربةَ. أو يقول أحدهم: سلِ الله أن يغفر لي. و منهم من يتأول قوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا "[15]، و يقولون: إذا طلبنا منه الاستغفارَ بعد مَوْتِه كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة.و يُخالفون بذلك إجماعَ الصحابة و التابعين لهم بإحسان، و سائِر المسلمين، فإنَّ أحدا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه و سلم بعد موته أن يشفَعَ له، و لا سألَه شيئا، و لا ذكر ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين في كُتُبهم، إنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، و حَكَوْا حكايةً مكذوبةً على مالك رضي الله عنه، سيأتي ذكرها، و بَسْطُ الكلام عليها إن شاء الله تعالى.فهذه الأنواع من خِطاب الملائكة و الأنبياء و الصالحين بعد موتهم عند قبورهم و في مغيبهم، و خِطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، مِن غير أهل الكتاب، و في مبتدعةِ أهل الكتاب و المسلمين الذين أحدَثوا من الشرك و العبادات ما لم يأْذن به اللهُ تعالى، قال تعالى: " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[16]...)
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى