- rababعضو خبير متطور
- عدد الرسائل : 1096
الأوسمة :
البلد :
نقاط : 367
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/06/2008
تعريف الصراط المستقيم
الخميس 17 يوليو 2008, 17:39
ابن القيم رحمه الله
فصل
وذكر {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفردا معرفا تعريفين: تعريفا باللام وتعريفا بالإضافة، وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فوحد لفظ {الصِّرَاطَ} و {سَبِيلِهِ} وجمع {السُّبُل} المخالفة له.
وقال ابن مسعود: "خط لنا رسول الله خطا وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال: هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}"، وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله.
قال الله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قال الحسن: "معناه صراط إلي مستقيم" وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض فقامت أداة (علي) مقام (إلي)، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى، وهو الأشبه بطريق السلف، أي صراط موصل إلي. وقال مجاهد: "الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء"، وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية، وقيل (عليّ) فيه للوجوب أي علي بيانه وتعريفه والدلالة عليه، والقولان نظير القولين في آية النحل وهي: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ويوصل إليه. قال طفيل الغنوي:
مضوا سلفا قصد السبيل عليهم *** وصرف المنايا بالرجال تشقلب
أي ممرنا عليهم وإليهم وصولنا. وقال الآخر:
فهن المنايا أي واد سلكته *** عليها طريقي أو عليّ طريقها
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة (إلى) التي هي للانتهاء لا أداة (على) التي هي للوجوب، ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وقال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، وقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ}، وقال: لما أراد الوجوب: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، ونظائر ذلك.
قيل: في أداة (على) سر لطيف، وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى وهو حق كما قال في حق المؤمنين: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}، وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}. والله عز وجل هو الحق وصراطه حق ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في أداة (على) على هذا المعنى ما ليس في أداة (إلى) فتأمله فإنه سر بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر (على) في ذلك أيضا وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى؟
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في الإتيان بأداة (على) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَات}، وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}، وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٌ}، فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها في أسفل سافلين.
وفي قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قول ثالث، وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، كما يقال: طريقك علي وممرك علي لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ولا معجز، والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله، فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم.
فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم، فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط، لأنه صراط علي، ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف؟
وأما تشبيه الكسائي له بقوله {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم عليّ لمن لا يسلكه، وليست سبيل المهدد مستقيمة فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول البتة.
وأما من فسره بالوجوب، أي علي بيان استقامته والدلالة عليه فالمعنى صحيح، لكن في كونه هو المراد بالآية نظر، لأنه حذف في غير موضع الدلالة، ولم يؤلف الحذف المذكور ليكون مدلولا عليه إذا حذف، بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حذف مألوف معروف حتى إنه لا يذكر البتة. فإذا قلت له درهم علي كان الحذف معروفا مألوفا، فلو أردت علي نقده أو علي وزنه وحفظه ونحو ذلك وحذفت لم يسغ، وهو نظير علي بيانه المقدر في الآية مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه يقول: وهما نظير قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}، قال: فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلا معنى الوجوب أي علينا بيان الهدى من الضلال، ومنهم من لم يذكر في (سورة النحل) إلا هذا المعنى كالبغوي، وذكر في (الحجر) الأقوال الثلاثة، وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في (سورة النحل)، واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث.
فصل
والصراط المستقيم: هو صراط الله، وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه كما ذكرنا، ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم، وهذا في موضعين من القرآن: في هود والنحل، قال في هود : {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال في النحل : {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل وهي كل على عابدها، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد؟ وهو قادر متكلم غني، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، فقوله صدق ورشد ونصح وهدى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة. هذا أصح الأقوال في الآية وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره، ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي، فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال: وقال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم، فإن دلالته بفعله وقوله وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله، فلا يناقض قول من قال إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول، فالله على الصراط المستقيم ورسوله عليه فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه، وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير، ولإمام الأبرار وهو رسول الله الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
وعلى القول الأول: يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار، والقولان متلازمان فبعضهم ذكر هذا وبعضهم ذكر هذا، وكلاهما مراد من الآية.
قال: وقيل كلاهما للمؤمن والكافر يرويه عطية عن ابن عباس، وقال عطاء الأبكم أبيّ بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون.
قلت: والآية تحتمله ولا يناقض القولين قبله، فإن الله على صراط مستقيم ورسوله وأتباع رسوله، وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم، والكافر التابع والمتبوع والمعبود، فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع وبعضهم ذكر الهادي وبعضهم ذكر المستجيب القابل، وتكون الآية متناولة لذلك كله ولذلك نظائر كثيرة في القرآن.
وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم، وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم، فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير، فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم، فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟ وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام "لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك"، لا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك، فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدرا، فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل، يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله، فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني، فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته، فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه، فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم، لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة، ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه، لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم، لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه.
فصل
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}، فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
وقد ضربت لذلك مثلين فليكونا منك على بال:
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه، فوقف ورد عليه وتماسكا، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة، فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت "اللهم اهدني فيمن هديت" أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية، أي قد أنعمت بالهداية على من هديت وكان ذلك نعمة منك، فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم، فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته، وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده. ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء، ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي.
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى"، قال الترمذي: حديث صحيح. فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالوحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم {الصَّمَدُ}، وهو كما قال ابن عباس: "العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته"، وفي رواية عنه "هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد"، وقال أبو وائل: "هو السيد الذي انتهى سؤدده"، وقال سعيد بن جبير: "هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله"، وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني: حديث أنس "أن رسول الله سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام ياحي يا قيوم، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم" فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت"، فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له، ثم سأله المغفرة.
فصل
وذكر {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفردا معرفا تعريفين: تعريفا باللام وتعريفا بالإضافة، وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فوحد لفظ {الصِّرَاطَ} و {سَبِيلِهِ} وجمع {السُّبُل} المخالفة له.
وقال ابن مسعود: "خط لنا رسول الله خطا وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال: هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}"، وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله.
قال الله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قال الحسن: "معناه صراط إلي مستقيم" وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض فقامت أداة (علي) مقام (إلي)، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى، وهو الأشبه بطريق السلف، أي صراط موصل إلي. وقال مجاهد: "الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء"، وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية، وقيل (عليّ) فيه للوجوب أي علي بيانه وتعريفه والدلالة عليه، والقولان نظير القولين في آية النحل وهي: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ويوصل إليه. قال طفيل الغنوي:
مضوا سلفا قصد السبيل عليهم *** وصرف المنايا بالرجال تشقلب
أي ممرنا عليهم وإليهم وصولنا. وقال الآخر:
فهن المنايا أي واد سلكته *** عليها طريقي أو عليّ طريقها
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة (إلى) التي هي للانتهاء لا أداة (على) التي هي للوجوب، ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وقال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، وقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ}، وقال: لما أراد الوجوب: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، ونظائر ذلك.
قيل: في أداة (على) سر لطيف، وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى وهو حق كما قال في حق المؤمنين: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}، وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}. والله عز وجل هو الحق وصراطه حق ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في أداة (على) على هذا المعنى ما ليس في أداة (إلى) فتأمله فإنه سر بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر (على) في ذلك أيضا وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى؟
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في الإتيان بأداة (على) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَات}، وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}، وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٌ}، فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها في أسفل سافلين.
وفي قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قول ثالث، وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، كما يقال: طريقك علي وممرك علي لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ولا معجز، والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله، فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم.
فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم، فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط، لأنه صراط علي، ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف؟
وأما تشبيه الكسائي له بقوله {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم عليّ لمن لا يسلكه، وليست سبيل المهدد مستقيمة فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول البتة.
وأما من فسره بالوجوب، أي علي بيان استقامته والدلالة عليه فالمعنى صحيح، لكن في كونه هو المراد بالآية نظر، لأنه حذف في غير موضع الدلالة، ولم يؤلف الحذف المذكور ليكون مدلولا عليه إذا حذف، بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حذف مألوف معروف حتى إنه لا يذكر البتة. فإذا قلت له درهم علي كان الحذف معروفا مألوفا، فلو أردت علي نقده أو علي وزنه وحفظه ونحو ذلك وحذفت لم يسغ، وهو نظير علي بيانه المقدر في الآية مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه يقول: وهما نظير قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}، قال: فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلا معنى الوجوب أي علينا بيان الهدى من الضلال، ومنهم من لم يذكر في (سورة النحل) إلا هذا المعنى كالبغوي، وذكر في (الحجر) الأقوال الثلاثة، وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في (سورة النحل)، واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث.
فصل
والصراط المستقيم: هو صراط الله، وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه كما ذكرنا، ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم، وهذا في موضعين من القرآن: في هود والنحل، قال في هود : {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال في النحل : {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل وهي كل على عابدها، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد؟ وهو قادر متكلم غني، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، فقوله صدق ورشد ونصح وهدى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة. هذا أصح الأقوال في الآية وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره، ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي، فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال: وقال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم، فإن دلالته بفعله وقوله وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله، فلا يناقض قول من قال إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول، فالله على الصراط المستقيم ورسوله عليه فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه، وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير، ولإمام الأبرار وهو رسول الله الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
وعلى القول الأول: يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار، والقولان متلازمان فبعضهم ذكر هذا وبعضهم ذكر هذا، وكلاهما مراد من الآية.
قال: وقيل كلاهما للمؤمن والكافر يرويه عطية عن ابن عباس، وقال عطاء الأبكم أبيّ بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون.
قلت: والآية تحتمله ولا يناقض القولين قبله، فإن الله على صراط مستقيم ورسوله وأتباع رسوله، وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم، والكافر التابع والمتبوع والمعبود، فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع وبعضهم ذكر الهادي وبعضهم ذكر المستجيب القابل، وتكون الآية متناولة لذلك كله ولذلك نظائر كثيرة في القرآن.
وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم، وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم، فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير، فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم، فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟ وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام "لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك"، لا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك، فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدرا، فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل، يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله، فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني، فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته، فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه، فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم، لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة، ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه، لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم، لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه.
فصل
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}، فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
وقد ضربت لذلك مثلين فليكونا منك على بال:
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه، فوقف ورد عليه وتماسكا، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة، فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت "اللهم اهدني فيمن هديت" أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية، أي قد أنعمت بالهداية على من هديت وكان ذلك نعمة منك، فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم، فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته، وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده. ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء، ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي.
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى"، قال الترمذي: حديث صحيح. فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالوحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم {الصَّمَدُ}، وهو كما قال ابن عباس: "العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته"، وفي رواية عنه "هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد"، وقال أبو وائل: "هو السيد الذي انتهى سؤدده"، وقال سعيد بن جبير: "هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله"، وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني: حديث أنس "أن رسول الله سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام ياحي يا قيوم، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم" فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت"، فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له، ثم سأله المغفرة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى