ارحموا أطفالكم !

لعلّ من أهمّ ما يحقّق للمربّي النجاح في تربيته:
أن يستذكر طفولته دائماً، بحلوها ومرّها، وإيجابيّاتها وسلبيّاتها، وجدّها وعبثها، فذلك أجدر به أن يحسن التعامل مع طفولة أولاده، ويقدر المرحلة والأطوار التي يمرّون بها حقّ قدرها..

ولكنّ مَن يُلاحظْ حال كثير من الآباء والمربّين يرى أنّهم يتعاملون مع الأطفال وكأنّهم لا يعرفون الطفولة ولا تعرفهم.. يتعاملون مع الأطفال وكأنّهم كبار عقلاء راشدون، قد خبرتهم تجارب الحياة وخبروها.. فيتوقّعون منهم أفعال الكبار ومواقفهم، ونضج الكبار ورشدهم، وكأنّهم لم يكونوا في يوم من الأيّام أطفالاً، يغلب عليهم عبث الطفولة وطيشها، ويخطئون ويزلّونَ.. ويتمنّون أن يقدّر الكبار طفولتهم، ويرحموا سنّهم، فلا يرون ذلك من الكبار ولا يحسّونه..
ومن ثمّ تكثر شكوى هؤلاء الآباء والمربّين من أطفالهم، ويكْثر عتبهم وتذمّرهم، وتأنيبهم وتوبيخهم، وتكون النتيجة أن تتّسع الفجوة بينهم وبين أولادهم، ويفقدون التأثير فيهم، ويخفقون في تربيتهم.

أعرف طفلاً على درجة متميّزة من الذكاء وسرعة البديهة، قد ابتلي بوالد كثير العتب والتأنيب والتوبيخ، وربّما سارع إلى ضرب أطفاله لأتفه سبب، فاستدرج الطفل والده في الحديث عن ذكريات طفولته، ومواقفه مع والدته، واستعذب الوالد الحديث، وسرح مع ذكرياته، فذكر مواقف ممّا كان عليه من عبثٍ وطيْش، وكيف كانت والدته تعامله بالرفق وحسن التوجيه.. وسمع الطفل من والده بعض الأمثلة والمواقف فأسرّها في نفسه، ولم يُبدِها لوالده.. وعندما كانَ في موقف مشابهٍ، وتوقّع من والده أن يثور عليه ويغضب، سارع فقال له: ألم تذكر لنا يا أبي أنّك فعلتَ مثلَ ذلك ولم تعاقِبك جدّتي، بل دعت لكَ أن يصلحك الله ويهديك؟ فخجل الوالد، وهدأت سورة غضبه، وأخفى وجهه وهو يضحك.. وصدق الله العظيم: {كَذلِكَ كُنتُم مِن قبلُ فَمَنّ الله عَلَيكُم} [النساء: 94].

ولعلّ أهمّ مبدأ وأصل من أصول التربية:
التدرّج في التعليم والتوجيه، وهو يقتضي من الوالد والمربّي أن يتحلّى بالرفق والصبر، وبعد النظر، وطول النفَس، ومراعاة طاقة الطفل أو الناشئ وقدراته.. وما أشبه تدرّج نموّ الطفل النفسيّ والفكريّ بتدرّج نموّه الجسديّ، فكما أنّك أيّها المربّي لا تستطيع ولا ترضى أن تحمّله عشرين كيلوغراما، وهو في سنّ ثلاث سنين أو أربع، وتخشى أن تقع عليه فتقتله أو تؤذيه، وعندما يبلغ أشدّه يحملها، ويحمل ما هو أثقل منها، فكيف ترضى لنفسك أن تحمّله مثل ذلك نفسيّاً أو فكريّاً، ثمّ تشتدّ في محاسبته ومؤاخذته!؟

ولنا على ذلك في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دليل وأيّ دليل ! فقد قال رسول الله بمناسبة الأمر بالرفق بالأرقّاء: "ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، وإن كلّفتموهم فأعينوهم عليه" متفق عليه.
وإذا أردنا أن نقتربَ من الواقع أكثر فلنحدّد أهمّ ما ينبغي على الوالد والمربّي أن يراعيه ليكون راحماً للطفل أو الناشئ، ولا يكلّفه من أمره رهقاً..

1- علّمه الأسماء قبل أن تطلب منه الأشياء:
كثير من الآباء يظنّ أنّ ولده يعرف أسماء الأشياء بداهةً، فيطلب منه شيئاً، وعندَما لا يستجيب له الطفل، لأنّه لم يفهم عنه ما طلب منه، يظنّ بولده المعاندة وحبّ المشاكسة، والاستهتار بطاعة والده، وهو في الحقيقة قد سمع أسماء كثير من الأشياء من والديه وإخوته، وكثير ممّن حوله، ولكنّه لم يربط بين الأسماء ومسمّياتها في حياته، ومن هنا جاء قولُ الله تعالى : {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 31].
أي أنبئوني بأسماء الأشياء، وهو ما يشير إلى أهمّيّة الربط بين الأسماء ومسمّياتها، ولو تأكّد الوالد من معرفة ولده بأسماء الأشياء لانتفى تعجّله وظنّه، وما يجرّه إليه من مَوقف غير تربويّ مع ولده.

وأذكر أنّ بعض الأصدقاء شكى لي عناد طفله، وجموده في وجهه كلّما طلب منه شيئاً، وقدّر الله تعالى أن أحضر موقفاً مشابهاً بين الطفل وأبيه، فلاحظت أنّ الطفل، وهو ابن أربع سنوات أو خمس، عندما طلب منه والده أن يحضر له صحناً وشوكة، وقف ساهياً في وجه والده، وكرّر عليه والده الطلب بصورة غاضبة.. وتوقّعت أنّه لم يفهم عن والده ما يريد، فسألته: هل ذقت طعم الصحن والشوكة؟ فسكت.. فأعدت القول عليه.. فقال: طعمه طيّب! فقلت لوالده: أرأيت؟ إنّك تطلب منه شيئاً لا يعرف معناه، فكيف يستجيب لك ويحضره.. كان عليك أن تعرّفه به قبل أن تطلبه منه.. وقلت للطفل: "يا حبيبي! إذا طلب منك أحد شيئاً لا تعرفه، فلا تخجل، اسأله عنه، فلا عيب في ذلك: ما هو؟ وبماذا نستعمله؟ أو قلْ لوالدك: يا أبي! أنا لم أفهم عليك".

2- ومن فهم المفردات إلى فهم الجمل والتراكيب:
فتأكّد من فهم ولدك لما تقول له: فقد لا يفهم الطفل كلمة واحدة من الجملة، فيضيع عليه فهم الجملة كلّها، ويتجلّى هذا أكثر ما يتجلّى في المعاني الذهنيّة أو التجريديّة، فليدقّق الوالد والمربّي في الجملة التي يطرحها على الطفل: كلماتها وتركيبها، وليتأكّد أنّها في مستوى نموّه اللغويّ والمعرفيّ.

3- لا تثقل على طفلك في المطالب:
فلكلّ سنّ ما يناسبه من القدرات، والصبر على دأب العمَل، فلو زيد على الطفل فيها لربما أدّت إلى عكس المقصود، (فإنّ المنبتّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى..) والطفل سريع الملل، وهو بحاجة دائمة إلى تجديد النشاط، ودفع السآمة عن نفسه، ويتّصل بهذه النقطة النقطة التالية.

4- أطلب منه ما يناسب سنه:
لا تطلب من طفلك مستوى من الجدّيّة والأداء لا يتناسب مع سنّه ونموّه، وتذكّر ما كنت عليه في طفولتك، أعرف والداً كان كلّما زاد الولد إنجازاً في عمله وإحساناً ازداد الوالد إشعاراً له بتقصيره، ومطالبته بالمزيد من الجدّيّة والأداء، ولم يسمعه شيئاً من الثناء عليه أو التشجيع.. وهذا ما يحبّط نفس الطفل، أو يغريه بترك العمل أو الجنوح إلى التمرّد والمعاندة.