- rababعضو خبير متطور
- عدد الرسائل : 1096
الأوسمة :
البلد :
نقاط : 367
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/06/2008
عقوق آخر زمن .. في دار المسنين آهات وأحزان
الجمعة 18 يوليو 2008, 10:51
يَتخذ الجحود أبشعَ صوره عندما يرى الأبناءُ أنه لا مكان للأب أو للأم - بعد أن بلغا من الكبر عتيا- إلا دار المسنين، فيحرمونهما من أبسط حقوقهما في بيت دافئ تسوده المودةُ والرحمة والعرفانُ بالجميل، وقد يكونان هما من شيداه بجهد جهيد ونِتاج سنوات عُمْرٍ طويلة.
وإذا كان في ظاهر هذه الآفة الاجتماعية ضربٌ من التدني السلوكي لبعض الأبناء الذين انتحرت في داخلهم مشاعر الحنان والرحمة والرأفة بالأبوين، فإن في باطنها كثيراً من الوحشية، و مخالفةً جسيمة لما أكد عليه دينُنا الحنيف من البر بالوالدين و الرأفة بهما و الحُنُو عليهما و رعايتهما في كبرهما.
وفي الأبعاد الاجتماعية لهذه القضية، ورأْي الشرع في الأبناء الذين يعُقُّون آباءهم .. كان هذا التحقيق.
في زيارة لأحد دور المسنين اِلْتَقينا بعدد من الآباء والأمهات النزلاء وسألناهم عن سبب وجودهم في الدار؟ وهل يزورهم الأبناء من حين لآخر أم لا؟
غريب في بيتي:
بكلمات حزينة قال الأب ج.ح: لم يعد لي مكان في بيتي بعد أن نبذني أبنائي عندما تزوجوا واحتلوا غرف المنزل بالكامل وأصبحتُ أنام على الأرض، فلا أجد من يرعاني ويَحْنو على شيبتى، وتمنيت كثيراً أن أَلحَق بزوجتي وأنتقل إلى رحاب الله - عز وجل - فمنذ وفاتها وأنا أفتقد إلى الأنيس والصديق، و حسبت أنني سأجد في أبنائي عِوضاً عنها لكنني لم أجد سوى البعد والرفض والإهمال، واخترت بنفسي أن أعيش وسط ذكرياتي في دار المسنين انتظاراً للموت بعد ما عشت غريباً في بيتي الذي شيدته بجهدي وعَرَقي، وبرغم ما فعله بي أبنائي فمازلت أدعو لهم بمزيد من السعادة والهناء.
بيت الذكريات:
وبصوت منخفض مليء بدموع الحسرة والألم قال الأب س.ر: لا أدرى لماذا أتى بي ابني الوحيد إلى هنا؟ كنت استمتع بوجودي في بيتي الذي قضيت فيه خمسين عاماً وأحسست وأنا أغادره كأنني أغادر حياتي، فبعد أيام قليلة من وفاة زوجتي التي هي والدته، فوجئت به يختلق لي عدداً من الأعذار الوهمية ثم ألقى في وجهي قنبلته أنه لم يعد لي مكان هنا، وعلىَّ أن أستعد لدخول دار المسنين، انهمرت دموعي وحمدت الله أن أمَّه ماتت قبل أن تشهد تلك اللحظة المريرة وتذكرت وقتها يوم ولادته حينما قالت لي أمه "هذا هو سَنَدُنا" فتمنيت أن أعيش حتى أرى حصاد السنين، وأريد أن أسأله الآن: هل هذا حصاد تربيتي وإكرامي لك؟ ولم يتمالك الأب نفسه فانهمرت دموعه واحتبست كلماته، فلم أتحمل دموعه التي مزقت قلبي.
أما السيدة ش.م: التي بدت في ريعان شبابها وعندما سألتها عن سبب وجودها في الدار غابت في رحلة شرود قصيرة ثم ردت بتنهيدة وابتسامة شاحبة، ثم قالت: عندي ثلاث بنات و ولدين، كلهم تزوجوا، أصغرهم منذ خمسة شهور، و هو الذي جاء بي إلى هنا ليتزوج في مسكني بعد أن اتفق مع إخوته على ذلك، برغم أنه كان أقرب أبنائي إلى قلبي، ولكن كما يقول المثل: " قلبي على ولدى انفطر، وقلب ولدى علىّ حجر"، وحاولَت الأم إخفاء دمعة تسللت إلى وجنتيها بالرغم عنها واستكملت حديثها: " ليته أتى بي إلى هنا دون إهانة، بل تمادى في معايرتي بأنني أصبحت عالةً عليه و على زوجته الشابة التي ضاقت بي ذرعاً، و عندها لجأتُ لبناتي فوجدتهن قد اِلْتمسن بعض الأعذار لأخيهن و تهربن مني، فبعت قطعة أرض صغيرة و رثتها عن زوجي - رحمه الله - الذي كان يشعر بما سيفعله أولادنا بي بعده، و أتيت إلى الدار كي أحفظ ما تبقى من كرامتي.
الرد الفاتر:
التقيت بنزيلة أخرى داخل الدار تدعى ر.س وجدتها منهمكةٌ معها قلم و بعضُ الأوراق، و بِسؤالها عما تكتب قالت: "إنني أحب الكتابة جداً، و منذ شهور أكتب لعلي أنسى، فأروى قصة حياتي التي توقفت بوفاة زوجي، فبالرغم من سهري الليالي على راحة أبنائي لأوفر لهم حياة كريمة وجدت أنني أصبحت عبئاً عليهم خصوصاً بعد تخَرُّجِهم من الجامعة، فعرضت عليهم فكرة أن أقضي بقية حياتي في إحدى دور المسنين، و فوجئت بفتور شديد قطع نياطَ قلبي فانسحبت بهدوء دون أن أسبب لهم أيَّ إزعاج حتى لا يكرهوني.
و ها أنا أعيش و كأنهم ماتوا بموت زوجي الذي كان يخاف عليَّ من ذلك المصير، و قد كنت دائماً أقول له : "اللي خلف لم يمت" لكنني الآن - في نهاية المطاف - كم أتمنى لو كنت عقيمة فلم أنجب ابناً يعق والدتَه و لا يرحمها في آخر أيامها.
دور التربية الإسلامية:
الدكتورة آمنه نصير- العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر- تقول: أكد الله الوصية بالوالدين في كتابه و جعل ذلك من أصول البر التي اتفقت عليها الأديان جميعاً، فوصف الله يحيى بقوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:32]، وكذلك وصف عيسى على لسانه في المهد: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:41]، وكذلك جاء القرآن فجعل الأمر ببر الوالدين بعد عبادة الله وحده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، و القرآن جعل للوالدين المشركَين حقاً، قال- تعالى- في سورة لقمان: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]، حتى مع محاولة التكفير والصد عن طريق الله و عن الإيمان أمرنا الله أن لا نطيعهما ولكن نصاحبهما في الدنيا معروفاً.
هذا ما جاء به الإسلام، فكيف يرفع الابن على أبيه قضية حجر و يُودِِع أباه أو أمَّه دارَ المسنين إذا ما أصبحا عبئاً عليه؟
أسس ضائعة:
الدكتور يسرى عبد المحسن – أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة – يرى: أن كثيراً من الآباء و الأمهات يشكون عقوق الأبناء أو سلوك الأبناء و ينسى الآباء أن فرصة التربية قد ضاعت منهم إما في زجر الأبناء في وقت لا يستدعى الأمر فيه إلى زجر، أو في التقليل من شأن الأبناء في وقت هم في أمس الحاجة فيه إلى من يعتني بهم و يرعاهم.
فالأب إما غافل عن أبنائه بالتجاهل لحياتهم، وإما بالغرق في زحمة الحياة بعيداً عن ضرورة رعاية الأبناء. والأم كذلك لاهيةٌ عن الأبناء في أمور أنستها مهمتَها الأساسيةَ في الحياة، فلا تأخذًُ الابنة عن أمها حناناً في أشد أوقات احتياجها إليه، و لا تتبع الحزم في الوقت المناسب، فنحن كنا أصدقاء لأمهاتنا, و بعد أن تعلمنا لم نصادق بناتنا، هل هذا معقول؟!
و يضيف: لقد ساد جوَّ الصداقة و الفهم كثيرٌ من التنافر، و إذا نظرنا إلى المجتمعات التي نطلق عليها لقب "معاصرة"، وجدنا أن علماء تلك المجتمعات يستقون من الإسلام الأسسَ السليمةَ للتربية، فالإسلام يحثنا على الاحترام و الحنان و المودة بين الزوجين، فينشأ الطفل متمتعاً بالوجدان الصافي لتلقى مسؤوليات الحياة، فالحزمُ و احترامُ ذاتية الطفل و تعليمُه منهجَ الدين من السابعة إلى الرابعة عشر ليعرف أن المؤمن هو الإنسان الذى يتقن عمله حتى تصلح حياته بهذا العمل، و أن يعطى من الجهد والتعليم ما يجعله متدرباً على تحمل المسؤولية ومعرفة فن إدارة الحياة وِفق منهج الله تعالى.
و يحذر د. يسرى كلَّ أب و أم يعتقد أن العلاقة مازالت مقدسة من جانب الآباء على أبنائهم، فإنها تغيرت بصورة كبيرة في زماننا الحالي, و حتى طابع الخوف الذي كان يدفعهم إلى الصمت قبل ذلك تغير ولم يعد أمامنا سبيل سوى التسامح و المودة و الألفة.
عمل غير مقبول:
الدكتورة نادية حليم - أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية - تتفق مع ما ذهب إليه الدكتور يسرى عبد المحسن في أن غياب المنهج الإسلامي و تبني أنماط غريبة لا تتناسب و مجتمعاتِنا الإسلامية، كان وراء انحراف الشباب وعقوقهم لوالديهم، و تشير د. نادية إلى أن الأبناء يرَون الدنيا من خلال آبائهم، فهم في أعين أبنائهم رمزُ الفضيلة و الرحمة و الحنان، فإن وجد الفتى ما يناقض ذلك في سلوكيات أبويه كان ذلك إيذاناً بأول شرخ في الجدار النفسي وأول ما يشب عليه الأبناء هو ما يتعلق مباشرة بالمفاضلة بين شقيقتين وإذا ما تعمق هذا الشعور بالنفس كانت له آثارُه السيئة التي لا تتحملها الطفولة البريئة و قد تصل إلى العدوانية و ربما إلى الجريمة.
وتضيف: أشد ما يؤلمني أن أطالع الصحف فأجد أُمَّا تقتل طفلها الوحيد من أجل عشيقها، و أباً يقتل أولاده الثلاثة و يقول إنهم لا يسمعون الكلام.
كيف؟! لقد جعل الله - لحكمةٍ جليلةٍ - محبةَ الأبناء غرساً أصيلاً لصيقاً بنسيج القلوب, و كفلت الشريعة الإسلامية الحقوق للأبناء على الآباء، أما الطبيعة السوية تقول إن الأبناءَ أملُ الأبوة وأحلامُها وكنوزُها المدخرةُ وعالمُها الممتد المجددُّ لوجودها الدنوي الفاني، لذلك كان الاحتواء بالتربية و الرعاية و الحضانة و السعي للرزق من أجلهم للتملك و التوريث و محاولة الترقي لبلوغ الأمنية.
و تشير د. نادية حليم إلى أن قراءة متأنية في صفحات عقيدتنا سيجد المؤمن فيها أن الشريعة الإسلامية تقدم المنهج الصحيح في التعامل، و أركز على دور الإعلام في التوعية الدينية و الاجتماعية و ضرورته.
حصاد تنشئة فاسدة:
الدكتور: أحمد المجدوب – أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية - يرى: أنه عندما يتجرأ الشاب أو الفتاة على والديه بالقول و الإشارة، فلا يمكننا أن نُلقي بالعبء كله على كاهل ذلك الشاب أو تلك الفتاة، و لكن المسؤولية كاملةً تقع على عاتق الوالدين، فالطفل يولَد صفحةً بيضاءَ كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) و أراد- عليه الصلاة و السلام - بهذا الحديث أن يشير إلى أن الفطرةَ، الإسلامُ.
لذا فأي تلوين في هذه الصفحة البيضاء يتم بواسطة الوالدين، و ما ينقلانه للطفل من عادات و أخلاقيات.
و يضيف د. المجدوب: إننا ندور في حلقة مفرغة، فعقوق الأبناء لآبائهم هو مجرد حصاد لما زرعه هؤلاء الآباء، فإساءة التربية نتائجها وخيمة.
فعندما يكون الأب مثلاً قاطعاً لرَحِمه، لا يجوز له أن يطالب أبناءَه أن يَصِلوا رحِمه فيما بعد، فلا ذنب للأبناء في عقوق الوالدين، فالتنشئة محاكاة و ليست أوامرَ موجهةً من الآباء إلى الأبناء، فالإنسان يلجأ بطبيعته للمحاكاة سواءٌ أكانت حسنة أم سيئة؛ لذا فإن جرائم الأبناء ضد الآباء هي حصاد لتنشئة فاسدة.
وإذا كان في ظاهر هذه الآفة الاجتماعية ضربٌ من التدني السلوكي لبعض الأبناء الذين انتحرت في داخلهم مشاعر الحنان والرحمة والرأفة بالأبوين، فإن في باطنها كثيراً من الوحشية، و مخالفةً جسيمة لما أكد عليه دينُنا الحنيف من البر بالوالدين و الرأفة بهما و الحُنُو عليهما و رعايتهما في كبرهما.
وفي الأبعاد الاجتماعية لهذه القضية، ورأْي الشرع في الأبناء الذين يعُقُّون آباءهم .. كان هذا التحقيق.
في زيارة لأحد دور المسنين اِلْتَقينا بعدد من الآباء والأمهات النزلاء وسألناهم عن سبب وجودهم في الدار؟ وهل يزورهم الأبناء من حين لآخر أم لا؟
غريب في بيتي:
بكلمات حزينة قال الأب ج.ح: لم يعد لي مكان في بيتي بعد أن نبذني أبنائي عندما تزوجوا واحتلوا غرف المنزل بالكامل وأصبحتُ أنام على الأرض، فلا أجد من يرعاني ويَحْنو على شيبتى، وتمنيت كثيراً أن أَلحَق بزوجتي وأنتقل إلى رحاب الله - عز وجل - فمنذ وفاتها وأنا أفتقد إلى الأنيس والصديق، و حسبت أنني سأجد في أبنائي عِوضاً عنها لكنني لم أجد سوى البعد والرفض والإهمال، واخترت بنفسي أن أعيش وسط ذكرياتي في دار المسنين انتظاراً للموت بعد ما عشت غريباً في بيتي الذي شيدته بجهدي وعَرَقي، وبرغم ما فعله بي أبنائي فمازلت أدعو لهم بمزيد من السعادة والهناء.
بيت الذكريات:
وبصوت منخفض مليء بدموع الحسرة والألم قال الأب س.ر: لا أدرى لماذا أتى بي ابني الوحيد إلى هنا؟ كنت استمتع بوجودي في بيتي الذي قضيت فيه خمسين عاماً وأحسست وأنا أغادره كأنني أغادر حياتي، فبعد أيام قليلة من وفاة زوجتي التي هي والدته، فوجئت به يختلق لي عدداً من الأعذار الوهمية ثم ألقى في وجهي قنبلته أنه لم يعد لي مكان هنا، وعلىَّ أن أستعد لدخول دار المسنين، انهمرت دموعي وحمدت الله أن أمَّه ماتت قبل أن تشهد تلك اللحظة المريرة وتذكرت وقتها يوم ولادته حينما قالت لي أمه "هذا هو سَنَدُنا" فتمنيت أن أعيش حتى أرى حصاد السنين، وأريد أن أسأله الآن: هل هذا حصاد تربيتي وإكرامي لك؟ ولم يتمالك الأب نفسه فانهمرت دموعه واحتبست كلماته، فلم أتحمل دموعه التي مزقت قلبي.
أما السيدة ش.م: التي بدت في ريعان شبابها وعندما سألتها عن سبب وجودها في الدار غابت في رحلة شرود قصيرة ثم ردت بتنهيدة وابتسامة شاحبة، ثم قالت: عندي ثلاث بنات و ولدين، كلهم تزوجوا، أصغرهم منذ خمسة شهور، و هو الذي جاء بي إلى هنا ليتزوج في مسكني بعد أن اتفق مع إخوته على ذلك، برغم أنه كان أقرب أبنائي إلى قلبي، ولكن كما يقول المثل: " قلبي على ولدى انفطر، وقلب ولدى علىّ حجر"، وحاولَت الأم إخفاء دمعة تسللت إلى وجنتيها بالرغم عنها واستكملت حديثها: " ليته أتى بي إلى هنا دون إهانة، بل تمادى في معايرتي بأنني أصبحت عالةً عليه و على زوجته الشابة التي ضاقت بي ذرعاً، و عندها لجأتُ لبناتي فوجدتهن قد اِلْتمسن بعض الأعذار لأخيهن و تهربن مني، فبعت قطعة أرض صغيرة و رثتها عن زوجي - رحمه الله - الذي كان يشعر بما سيفعله أولادنا بي بعده، و أتيت إلى الدار كي أحفظ ما تبقى من كرامتي.
الرد الفاتر:
التقيت بنزيلة أخرى داخل الدار تدعى ر.س وجدتها منهمكةٌ معها قلم و بعضُ الأوراق، و بِسؤالها عما تكتب قالت: "إنني أحب الكتابة جداً، و منذ شهور أكتب لعلي أنسى، فأروى قصة حياتي التي توقفت بوفاة زوجي، فبالرغم من سهري الليالي على راحة أبنائي لأوفر لهم حياة كريمة وجدت أنني أصبحت عبئاً عليهم خصوصاً بعد تخَرُّجِهم من الجامعة، فعرضت عليهم فكرة أن أقضي بقية حياتي في إحدى دور المسنين، و فوجئت بفتور شديد قطع نياطَ قلبي فانسحبت بهدوء دون أن أسبب لهم أيَّ إزعاج حتى لا يكرهوني.
و ها أنا أعيش و كأنهم ماتوا بموت زوجي الذي كان يخاف عليَّ من ذلك المصير، و قد كنت دائماً أقول له : "اللي خلف لم يمت" لكنني الآن - في نهاية المطاف - كم أتمنى لو كنت عقيمة فلم أنجب ابناً يعق والدتَه و لا يرحمها في آخر أيامها.
دور التربية الإسلامية:
الدكتورة آمنه نصير- العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر- تقول: أكد الله الوصية بالوالدين في كتابه و جعل ذلك من أصول البر التي اتفقت عليها الأديان جميعاً، فوصف الله يحيى بقوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:32]، وكذلك وصف عيسى على لسانه في المهد: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:41]، وكذلك جاء القرآن فجعل الأمر ببر الوالدين بعد عبادة الله وحده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، و القرآن جعل للوالدين المشركَين حقاً، قال- تعالى- في سورة لقمان: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]، حتى مع محاولة التكفير والصد عن طريق الله و عن الإيمان أمرنا الله أن لا نطيعهما ولكن نصاحبهما في الدنيا معروفاً.
هذا ما جاء به الإسلام، فكيف يرفع الابن على أبيه قضية حجر و يُودِِع أباه أو أمَّه دارَ المسنين إذا ما أصبحا عبئاً عليه؟
أسس ضائعة:
الدكتور يسرى عبد المحسن – أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة – يرى: أن كثيراً من الآباء و الأمهات يشكون عقوق الأبناء أو سلوك الأبناء و ينسى الآباء أن فرصة التربية قد ضاعت منهم إما في زجر الأبناء في وقت لا يستدعى الأمر فيه إلى زجر، أو في التقليل من شأن الأبناء في وقت هم في أمس الحاجة فيه إلى من يعتني بهم و يرعاهم.
فالأب إما غافل عن أبنائه بالتجاهل لحياتهم، وإما بالغرق في زحمة الحياة بعيداً عن ضرورة رعاية الأبناء. والأم كذلك لاهيةٌ عن الأبناء في أمور أنستها مهمتَها الأساسيةَ في الحياة، فلا تأخذًُ الابنة عن أمها حناناً في أشد أوقات احتياجها إليه، و لا تتبع الحزم في الوقت المناسب، فنحن كنا أصدقاء لأمهاتنا, و بعد أن تعلمنا لم نصادق بناتنا، هل هذا معقول؟!
و يضيف: لقد ساد جوَّ الصداقة و الفهم كثيرٌ من التنافر، و إذا نظرنا إلى المجتمعات التي نطلق عليها لقب "معاصرة"، وجدنا أن علماء تلك المجتمعات يستقون من الإسلام الأسسَ السليمةَ للتربية، فالإسلام يحثنا على الاحترام و الحنان و المودة بين الزوجين، فينشأ الطفل متمتعاً بالوجدان الصافي لتلقى مسؤوليات الحياة، فالحزمُ و احترامُ ذاتية الطفل و تعليمُه منهجَ الدين من السابعة إلى الرابعة عشر ليعرف أن المؤمن هو الإنسان الذى يتقن عمله حتى تصلح حياته بهذا العمل، و أن يعطى من الجهد والتعليم ما يجعله متدرباً على تحمل المسؤولية ومعرفة فن إدارة الحياة وِفق منهج الله تعالى.
و يحذر د. يسرى كلَّ أب و أم يعتقد أن العلاقة مازالت مقدسة من جانب الآباء على أبنائهم، فإنها تغيرت بصورة كبيرة في زماننا الحالي, و حتى طابع الخوف الذي كان يدفعهم إلى الصمت قبل ذلك تغير ولم يعد أمامنا سبيل سوى التسامح و المودة و الألفة.
عمل غير مقبول:
الدكتورة نادية حليم - أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية - تتفق مع ما ذهب إليه الدكتور يسرى عبد المحسن في أن غياب المنهج الإسلامي و تبني أنماط غريبة لا تتناسب و مجتمعاتِنا الإسلامية، كان وراء انحراف الشباب وعقوقهم لوالديهم، و تشير د. نادية إلى أن الأبناء يرَون الدنيا من خلال آبائهم، فهم في أعين أبنائهم رمزُ الفضيلة و الرحمة و الحنان، فإن وجد الفتى ما يناقض ذلك في سلوكيات أبويه كان ذلك إيذاناً بأول شرخ في الجدار النفسي وأول ما يشب عليه الأبناء هو ما يتعلق مباشرة بالمفاضلة بين شقيقتين وإذا ما تعمق هذا الشعور بالنفس كانت له آثارُه السيئة التي لا تتحملها الطفولة البريئة و قد تصل إلى العدوانية و ربما إلى الجريمة.
وتضيف: أشد ما يؤلمني أن أطالع الصحف فأجد أُمَّا تقتل طفلها الوحيد من أجل عشيقها، و أباً يقتل أولاده الثلاثة و يقول إنهم لا يسمعون الكلام.
كيف؟! لقد جعل الله - لحكمةٍ جليلةٍ - محبةَ الأبناء غرساً أصيلاً لصيقاً بنسيج القلوب, و كفلت الشريعة الإسلامية الحقوق للأبناء على الآباء، أما الطبيعة السوية تقول إن الأبناءَ أملُ الأبوة وأحلامُها وكنوزُها المدخرةُ وعالمُها الممتد المجددُّ لوجودها الدنوي الفاني، لذلك كان الاحتواء بالتربية و الرعاية و الحضانة و السعي للرزق من أجلهم للتملك و التوريث و محاولة الترقي لبلوغ الأمنية.
و تشير د. نادية حليم إلى أن قراءة متأنية في صفحات عقيدتنا سيجد المؤمن فيها أن الشريعة الإسلامية تقدم المنهج الصحيح في التعامل، و أركز على دور الإعلام في التوعية الدينية و الاجتماعية و ضرورته.
حصاد تنشئة فاسدة:
الدكتور: أحمد المجدوب – أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية - يرى: أنه عندما يتجرأ الشاب أو الفتاة على والديه بالقول و الإشارة، فلا يمكننا أن نُلقي بالعبء كله على كاهل ذلك الشاب أو تلك الفتاة، و لكن المسؤولية كاملةً تقع على عاتق الوالدين، فالطفل يولَد صفحةً بيضاءَ كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) و أراد- عليه الصلاة و السلام - بهذا الحديث أن يشير إلى أن الفطرةَ، الإسلامُ.
لذا فأي تلوين في هذه الصفحة البيضاء يتم بواسطة الوالدين، و ما ينقلانه للطفل من عادات و أخلاقيات.
و يضيف د. المجدوب: إننا ندور في حلقة مفرغة، فعقوق الأبناء لآبائهم هو مجرد حصاد لما زرعه هؤلاء الآباء، فإساءة التربية نتائجها وخيمة.
فعندما يكون الأب مثلاً قاطعاً لرَحِمه، لا يجوز له أن يطالب أبناءَه أن يَصِلوا رحِمه فيما بعد، فلا ذنب للأبناء في عقوق الوالدين، فالتنشئة محاكاة و ليست أوامرَ موجهةً من الآباء إلى الأبناء، فالإنسان يلجأ بطبيعته للمحاكاة سواءٌ أكانت حسنة أم سيئة؛ لذا فإن جرائم الأبناء ضد الآباء هي حصاد لتنشئة فاسدة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى