- المحترفمشرف منتدى أخبار و تاريخ مستغانم
- عدد الرسائل : 1490
نقاط : 2747
السٌّمعَة : 8
تاريخ التسجيل : 20/06/2008
تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.. هل هو فعل ممكن وملائم؟
الجمعة 14 مايو 2010, 20:40
غادر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك "الإيليزيه" في ختام ولايتين رئاسيتين، وبقي رئيس الدولة الجزائري في المرادية بعده بفضل "عهدة" ثالثة، بفضل تعديلات "محدودة" على دستور البلاد، غير أنّهما لم يحققا حلمهما المشترك في التوقيع على معاهدة صداقة بين البلدين، تنهي أو تساهم في تقليب صفحة من تاريخهما المؤلم.
كان شيراك يودّ أن يختتم رئاسته بتلك المعاهدة، وكان بوتفليقة يرغب في جعلها نقطة لامعة في حصيلته من أجل التوجه بثبات وقوة نحو "عهدة" ثالثة. وفي حين ثبت أنّ عدد "العهدات" الرئاسية على الطريقة الجزائرية لا يتقيّد بالحصيلات الإيجابية، فإنّ معاهدة الصداقة تلك مرشحة للانتظار زمنا طويلا آخر قد يطوي الجيل الحاكم حاليا في الجزائر، كما توقّع ذلك وزير الخارجية الفرنسي طويل اللسان برنار كوشنير.
في خطابه أمام الجمعية الفرنسية يوم 15 جوان 2000 حين كان البلدان في شهر عسل بهيج، قال بوتفليقة: "هناك مؤسسات بأكملها، مثل الكنيسة، ودول عريقة، مثل دولتكم، لا تتردد اليوم في الاعتراف بأخطائها وبجرائمها التي شوهت ماضيها في لحظة ما. إن إخراج حرب الجزائر من حلقة النسيان ومن حلقة المكتومات وتسميتها باسمها وقيام مؤسساتكم التربوية بتصحيح المقررات المدرسية وتصحيح الصورة المحـرّفة في بعض الأحيان عن بعض الفصول الاستعمارية، تمثل خطوة هامة في تكريس الحقيقة لصالح المعرفة التاريخية ولصالح المساواة بين بني البشر". هل كان رئيس الدولة الجزائري متسرّعا في تـمنياته تلك أم أنه كان واهما؟
صحيح، الجزائر الرسمية لم تطلب من فرنسا اعتذارا عن ماضيها الإستعماري، بخلاف تلك الأمنية اليتيمة التي عبر عنها رئيس الدولة الجزائري. وفي رسالة التهنئة التي وجهها إليه بعد فوزه بالرئاسيات، كتب بوتفليقة لساركوزي: "أنا متأكد أنكم تولون مثلي اهتمامكم الأكبر للعلاقات بين بلدينا، علاقات تقوم على المصالح المشتركة، ولكنها أيضا علاقات نسجها تاريخ طويل مشترك قد ترك آثارا عميقة على شعبينا".
وزير الخارجية مراد مدلسي جدّد هذا الموقف، ملمحا إلى أن الجزائر تنتظر أن تبادر فرنسا الرسمية من ذاتها إلى ذلك، كما فعلت ألمانيا حين تبرأت من ماضيها النازي. لكن مثل هذه الإيماءة لن تتم في المستقبل المنظور، في عهد ساركوزي على الأقل. إنه لا يتردّد في إدانة الظاهرة الاستعمارية، معتبرا إياها ظلما كبيرا، لكنّه لا يفتأ يردّد أن فرنسا لا تنوي الاعتذار ولا يوجد ما تعتذر عنه.
"قسما" لنجدة سياسة ملتوية
معاهدة الصداقة بين فرنسا ومستعمَرتها السابقة لم تتمّ إذن. خاب فأل شيراك وبوتفليقة في تحويل الماضي الدامي، وهو بالقطع أكثر دموية بالنسبة للجزائريين، إلى مرتكز تاريخي وحتى معرفي يوفّر للعلاقات الخصوصية جدا بين البلدين إطارا ومرجعا يخرجانها من حالة الأهواء والعواطف والعواصف المتقلبة إلى مرحلة العقلانية والتعقل والثبات. هناك على الشاطئ الآخر من المتوسط قوى نجحت في إجهاض هذا المسعى، من خلال التصويت على قانون يمجّد الاستعمار. الضفة الجنوبية من المتوسط لم تعدم هي الأخرى ردّا في مستوى خيبة أملها. إعادة "العمل" بالمقطع الشهير من النشيد الوطني "قسما" الذي يذكر فرنسا بالتنصيص ويعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور. الظاهر أن المسؤولين الجزائريين تسرّعوا في الإيعاز بإغفال ذلك المقطع في كتب مدرسية حديثة ليقينهم أن معاهدة الصداقة تلك ستبرم، ثم عادوا فنكصوا على أعقابهم، وسحبوا تلك الكتب ومسحوا الموسى في مُوظفيْن من الشمامسة، ثمّ أدرجوا "قَسما" في باب "رموز الثورة" ذات الحماية الدستورية. إلى متى؟ إلى فصل آخر من فصول الشدّ والجذب بين جانبي المتوسط. وبالنظر إلى الطريقة التي جرى بها تعديل دستورنا العتيد، رفع الأيدي في أقصر جلسة لمجلس "الأمة"، فلن تكون هناك صعوبة ما في مراجعة الموضوع حسب الظروف. في فرنسا نفسها، يمكن إلغاء القانون الممجّد للإستعمار إذا وصلت أغلبية جديدة إلى الجمعية الوطنية، كاليساريين وأنصار البيئة. أما الفرق بين الطريقتين، فلا مجال للتعرض له الآن!
كان هناك ردّ فعل آخر حين تقدم بعض النواب آنئذ باقتراح إصدار قانون يدين جرائم الاستعمار الفرنسي، لكنّ المحاولة فشلت ـ بالأحرى أُجهضت ـ وتطلّب الأمر بضعة سنوات أخرى ليتمكّن نائب من حزب جبهة التحرير الوطني من الحصول على تواقيع أكثر من مائة نائب لصالح مشروع قانون في نفس الموضوع. وبالفعل، درس المجلس الشعبي الوطني المشروع ورفعه إلى الجهة التنفيذية لتذييله بمقترحاتها وتوصياتها كما يقضي بذلك القانون التنظيمي للعمل البرلماني، وخرج "سي" أحمد أويحيى علينا في النهاية ليعلن دفنه. الأمر لم يقف عند هذا الحدّ بالنسبة للنائب صاحب المبادرة. في مؤتمره الأخير، استبعد حزب جبهة التحرير الوطني النائب المذكور من اللجنة المركزية في بادرة لا تجد "النفوس الجاحدة" مثل نفوسنا حرجا في اعتبارها عقابا من فوق للنائب سيء الحظ، بل وتأبى "نفوسنا الجاحدة" أن تعتبر مبادرة النائب إياه ذاتية ومستقلة، وتصرّ على إدراجها ضمن الصراع بين العُصب والعصبيات المشكلة لنظام الحكم، أو تعتبرها في أحسن الأحوال إيعازا من فوق لتحقيق مآرب مرحلية قبل أن يأتي إيعاز مضاد بسحب المبادرة وحفظها ثم "كنس" صاحبها من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني العتيد.
"الحرية تقود الشعب"
ربما لا يزال البعض يتذكرون أن الجزائريين المحظوظين في عهد فرنسا، كانوا يحلفون بـ"بزولة فرنسا". قد يكون هؤلاء أو غالبيتهم يجهلون بحكم الأمية لوحة أوجين دولاكروا الشهيرة "الحرية تقود الشعب"، التي رسم فيها ماريانا عارية الصدر وهي تتقدم جموع الشعب خلال الثورة الفرنسية، لكنّ التشبيه الذي وصفوا به علاقتهم بفرنسا لا يخلو من طرافة.
للجزائر وجود مجسّد في فرنسا في شكل جالية ضخمة. وبالنسبة لهؤلاء، فإن تعبير "بزولة فرنسا" يتخذ هنا معنى واقعيا، فهي التي توفّر لهم العمل والعيش الكريم حتى أصبحوا موضع حسد في بلدهم الأصلي، وساهموا في رفع أسعار العقّار و"شكارة السيمان". وأجزم أنه لولا أن أقفلت فرنسا باب الهجرة، لقطع نصف الشعب الجزائري البحر شاخصا إلى "البزولة". ومرّة أخرى، توفّرت لـ"بزولة فرنسا" الفرصة لإظهار حدبها على أبناءٍ من المستعمَرة السابقة، حين استقبلت العديد من الفنانين والأدباء والصحفيين والإطارات الفارّين من الإرهاب. هناك أيضا مخلفات العهد الاستعماري مثل الحَـرْكة والأقدام السود واليهود المتجنسين بحكم مرسوم كريميو، ومنهم المؤرخ الشهير بنيامين ستورا، وقد جعل من تخصصه في تاريخ الجزائر الحديث تعويضا عن الوطن المفقود وهو يحظى بسمعة طيبة في أرض أجداده وهو يزورها كلما واتته الفرصة، عكس أخيه في الدين المطرب أنريكو ماسياس الممنوع من ذلك.
في ظلّ هذا الزخم وفي ظلّ تلك العلاقات المشوبة دوما بالعواطف الجياشة، وبالرغم من كل التجاذبات المرحلية، فإنّ أية مبادرة للردّ على قانون تمجيد الاستعمار في فرنسا بقانون يجرّم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وينصّب المحاكم للمسؤولين الأحياء منهم والأموات، ستكون خارج نسق تلك العلاقات والروابط، ولا يصبّ في مجرى الارتفاع بها إلى مستويات تتجاوز الإسفاف والمكايدات الرخيصة، كما جسّدها قانون تمجيد الاستعمار بالذات. هذا ما يدركه النظام الجزائري غاية الإدراك. لا أحد ينكر ما ارتكبته فرنسا الاستعمارية في بلادنا من جرائم طوال الليل الاستعماري البهيم. الفرنسيون أنفسهم يعترفون بذلك، وكتاب "عارنا في الجزائر" للفيلسوف ذائع الصيت جان بول سارتر لا يزال يشهد عليها. الصعوبة تكمن في تحويل رأي وموقف أدبي أخلاقي إلى مادة قانونية قابلة للتطبيق بأثر رجعي على أعمال طواها التاريخ. هناك الجرائم ضد الإنسانية كمفهوم عصري منذ محاكمات النازيين في نورنبرغ. وقد اسْتُند إلى هذا المفهوم وإلى ما نشأ عنه من مواد في القانون الدولي لجرّ متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام محكمة الجنايات. وغني عن القول إن القانون الدولي يتطلب لتطبيقه في حالات معينة إجماعا بين القوى الكبرى النافذة، إجماع ليس في مقدور بلد مثل الجزائر الدفع نحو توفيره، ثم جرّ فرنسا إلى قفص الاتهام ومحاكمتها عن الجرائم ضد الإنسانية، جرائم غير قابلة للتقادم. يمكن أن تقوم محاكم شعبية أو محاكم تقيمها جمعيات ومثقفون، مثل محكمة برتراند راسل، الفيلسوف الإنجليزي المعاصر، التي حاكمت الاستعمار بكل أشكاله وأدانته.
حضور لا فكاك منه
فرنسا دائما حاضرة بكيفية من الكيفيات في المنحى الذي تأخذه الأحداث في الجزائر. قد لا نصلُ في تخرّصاتنا هاته إلى حدّ الزعم أن "فال دو غـراس" هو من أنقذ حياة رئيس الدولة الجزائري، لكن للواقعة وزنها في كفتي العلاقات بين البلدين. علاج رئيس الدولة الجزائري ذاك في مشفى فرنسي، جاء تتويجا لسلوكٍ دأب عليه رجال الدولة النافذون منذ رحيل هواري بومدين، وعلى رأسهم كثيرون من "أصحاب البزولة" السابقين. كان بومدين يفضّل مشافي المعسكر الشرقي. الشاذلي بن جديد فضّل هو الآخر اللجوء إلى سويسرا لمعالجة عموده الفقري، لكنّ ذلك لم يحل دون قيام علاقات شخصية قوية بينه وبين الراحل ميتيران، إلى درجة أوعزت فيها "دوائر جزائرية عليا" بحذف المقطع الشهير من النشيد الرسمي الجزائري بإلحاح من ميتيران، بل تشكلت خلال عهد الشاذلي بن جديد لجنة من بعض شعراء البلاط لإعادة صياغته. يذكر أن الراحل محمد الشريف مساعدية، الذي أخرجه بوتفليقة من النسيان ونصبه على رأس مجلس الأمة، توفي في مشافي باريس. ومن غريب الصدف أن الشخصية التي خلفت مساعدية كانت البشير بومعزة، مؤسس جمعية 8 ماي 45 التي دأبت على جمع ملف ضخم عن جرائم فرنسا غداة الحرب العالمية الثانية في بعض جهات الوطن، تمهيدا لرفعه إلى الجنايات الدولية كجرائم ضد الإنسانية.
فرنسا، أو بعض القوى داخلها، ليست مهيأة بعد للشفاء من مرض إسمه الجزائر. الجزائريون طردوها من بلادهم بفضل ثورة عارمة توّجت سلسلة متواصلة من المقاومة. كان الثمن باهضا. كان حدثا تاريخيا مجلجلا. يمكن لقوى اليمين ولأصحاب الحنين إلى ماضي فرنسا الاستعماري أن يسنوا ما أرادوه من قوانين وأن يصدروا ما شاءوا من نصوص قد تساعدهم في مواجهة تبكيت الضمير. الثورة الجزائرية ستبقى عظيمة شامخة. ولن يقلّل من عظمتها قانون سخيف هناك أو مشروع قانون هزيل هنا، هدفه ليس الدفاع عنها بقدر الدفاع عن المراكز المكتسبة للمنتفعين منها والمتاجرين بها. الدليل؟ بمجرّد أن صعّرت فرنسا خدها، جرى سحب مشروع القانون إياه وعوقب "صاحب المبادرة" أقسى عقاب!
ب. علاوة
كان شيراك يودّ أن يختتم رئاسته بتلك المعاهدة، وكان بوتفليقة يرغب في جعلها نقطة لامعة في حصيلته من أجل التوجه بثبات وقوة نحو "عهدة" ثالثة. وفي حين ثبت أنّ عدد "العهدات" الرئاسية على الطريقة الجزائرية لا يتقيّد بالحصيلات الإيجابية، فإنّ معاهدة الصداقة تلك مرشحة للانتظار زمنا طويلا آخر قد يطوي الجيل الحاكم حاليا في الجزائر، كما توقّع ذلك وزير الخارجية الفرنسي طويل اللسان برنار كوشنير.
في خطابه أمام الجمعية الفرنسية يوم 15 جوان 2000 حين كان البلدان في شهر عسل بهيج، قال بوتفليقة: "هناك مؤسسات بأكملها، مثل الكنيسة، ودول عريقة، مثل دولتكم، لا تتردد اليوم في الاعتراف بأخطائها وبجرائمها التي شوهت ماضيها في لحظة ما. إن إخراج حرب الجزائر من حلقة النسيان ومن حلقة المكتومات وتسميتها باسمها وقيام مؤسساتكم التربوية بتصحيح المقررات المدرسية وتصحيح الصورة المحـرّفة في بعض الأحيان عن بعض الفصول الاستعمارية، تمثل خطوة هامة في تكريس الحقيقة لصالح المعرفة التاريخية ولصالح المساواة بين بني البشر". هل كان رئيس الدولة الجزائري متسرّعا في تـمنياته تلك أم أنه كان واهما؟
صحيح، الجزائر الرسمية لم تطلب من فرنسا اعتذارا عن ماضيها الإستعماري، بخلاف تلك الأمنية اليتيمة التي عبر عنها رئيس الدولة الجزائري. وفي رسالة التهنئة التي وجهها إليه بعد فوزه بالرئاسيات، كتب بوتفليقة لساركوزي: "أنا متأكد أنكم تولون مثلي اهتمامكم الأكبر للعلاقات بين بلدينا، علاقات تقوم على المصالح المشتركة، ولكنها أيضا علاقات نسجها تاريخ طويل مشترك قد ترك آثارا عميقة على شعبينا".
وزير الخارجية مراد مدلسي جدّد هذا الموقف، ملمحا إلى أن الجزائر تنتظر أن تبادر فرنسا الرسمية من ذاتها إلى ذلك، كما فعلت ألمانيا حين تبرأت من ماضيها النازي. لكن مثل هذه الإيماءة لن تتم في المستقبل المنظور، في عهد ساركوزي على الأقل. إنه لا يتردّد في إدانة الظاهرة الاستعمارية، معتبرا إياها ظلما كبيرا، لكنّه لا يفتأ يردّد أن فرنسا لا تنوي الاعتذار ولا يوجد ما تعتذر عنه.
"قسما" لنجدة سياسة ملتوية
معاهدة الصداقة بين فرنسا ومستعمَرتها السابقة لم تتمّ إذن. خاب فأل شيراك وبوتفليقة في تحويل الماضي الدامي، وهو بالقطع أكثر دموية بالنسبة للجزائريين، إلى مرتكز تاريخي وحتى معرفي يوفّر للعلاقات الخصوصية جدا بين البلدين إطارا ومرجعا يخرجانها من حالة الأهواء والعواطف والعواصف المتقلبة إلى مرحلة العقلانية والتعقل والثبات. هناك على الشاطئ الآخر من المتوسط قوى نجحت في إجهاض هذا المسعى، من خلال التصويت على قانون يمجّد الاستعمار. الضفة الجنوبية من المتوسط لم تعدم هي الأخرى ردّا في مستوى خيبة أملها. إعادة "العمل" بالمقطع الشهير من النشيد الوطني "قسما" الذي يذكر فرنسا بالتنصيص ويعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور. الظاهر أن المسؤولين الجزائريين تسرّعوا في الإيعاز بإغفال ذلك المقطع في كتب مدرسية حديثة ليقينهم أن معاهدة الصداقة تلك ستبرم، ثم عادوا فنكصوا على أعقابهم، وسحبوا تلك الكتب ومسحوا الموسى في مُوظفيْن من الشمامسة، ثمّ أدرجوا "قَسما" في باب "رموز الثورة" ذات الحماية الدستورية. إلى متى؟ إلى فصل آخر من فصول الشدّ والجذب بين جانبي المتوسط. وبالنظر إلى الطريقة التي جرى بها تعديل دستورنا العتيد، رفع الأيدي في أقصر جلسة لمجلس "الأمة"، فلن تكون هناك صعوبة ما في مراجعة الموضوع حسب الظروف. في فرنسا نفسها، يمكن إلغاء القانون الممجّد للإستعمار إذا وصلت أغلبية جديدة إلى الجمعية الوطنية، كاليساريين وأنصار البيئة. أما الفرق بين الطريقتين، فلا مجال للتعرض له الآن!
كان هناك ردّ فعل آخر حين تقدم بعض النواب آنئذ باقتراح إصدار قانون يدين جرائم الاستعمار الفرنسي، لكنّ المحاولة فشلت ـ بالأحرى أُجهضت ـ وتطلّب الأمر بضعة سنوات أخرى ليتمكّن نائب من حزب جبهة التحرير الوطني من الحصول على تواقيع أكثر من مائة نائب لصالح مشروع قانون في نفس الموضوع. وبالفعل، درس المجلس الشعبي الوطني المشروع ورفعه إلى الجهة التنفيذية لتذييله بمقترحاتها وتوصياتها كما يقضي بذلك القانون التنظيمي للعمل البرلماني، وخرج "سي" أحمد أويحيى علينا في النهاية ليعلن دفنه. الأمر لم يقف عند هذا الحدّ بالنسبة للنائب صاحب المبادرة. في مؤتمره الأخير، استبعد حزب جبهة التحرير الوطني النائب المذكور من اللجنة المركزية في بادرة لا تجد "النفوس الجاحدة" مثل نفوسنا حرجا في اعتبارها عقابا من فوق للنائب سيء الحظ، بل وتأبى "نفوسنا الجاحدة" أن تعتبر مبادرة النائب إياه ذاتية ومستقلة، وتصرّ على إدراجها ضمن الصراع بين العُصب والعصبيات المشكلة لنظام الحكم، أو تعتبرها في أحسن الأحوال إيعازا من فوق لتحقيق مآرب مرحلية قبل أن يأتي إيعاز مضاد بسحب المبادرة وحفظها ثم "كنس" صاحبها من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني العتيد.
"الحرية تقود الشعب"
ربما لا يزال البعض يتذكرون أن الجزائريين المحظوظين في عهد فرنسا، كانوا يحلفون بـ"بزولة فرنسا". قد يكون هؤلاء أو غالبيتهم يجهلون بحكم الأمية لوحة أوجين دولاكروا الشهيرة "الحرية تقود الشعب"، التي رسم فيها ماريانا عارية الصدر وهي تتقدم جموع الشعب خلال الثورة الفرنسية، لكنّ التشبيه الذي وصفوا به علاقتهم بفرنسا لا يخلو من طرافة.
للجزائر وجود مجسّد في فرنسا في شكل جالية ضخمة. وبالنسبة لهؤلاء، فإن تعبير "بزولة فرنسا" يتخذ هنا معنى واقعيا، فهي التي توفّر لهم العمل والعيش الكريم حتى أصبحوا موضع حسد في بلدهم الأصلي، وساهموا في رفع أسعار العقّار و"شكارة السيمان". وأجزم أنه لولا أن أقفلت فرنسا باب الهجرة، لقطع نصف الشعب الجزائري البحر شاخصا إلى "البزولة". ومرّة أخرى، توفّرت لـ"بزولة فرنسا" الفرصة لإظهار حدبها على أبناءٍ من المستعمَرة السابقة، حين استقبلت العديد من الفنانين والأدباء والصحفيين والإطارات الفارّين من الإرهاب. هناك أيضا مخلفات العهد الاستعماري مثل الحَـرْكة والأقدام السود واليهود المتجنسين بحكم مرسوم كريميو، ومنهم المؤرخ الشهير بنيامين ستورا، وقد جعل من تخصصه في تاريخ الجزائر الحديث تعويضا عن الوطن المفقود وهو يحظى بسمعة طيبة في أرض أجداده وهو يزورها كلما واتته الفرصة، عكس أخيه في الدين المطرب أنريكو ماسياس الممنوع من ذلك.
في ظلّ هذا الزخم وفي ظلّ تلك العلاقات المشوبة دوما بالعواطف الجياشة، وبالرغم من كل التجاذبات المرحلية، فإنّ أية مبادرة للردّ على قانون تمجيد الاستعمار في فرنسا بقانون يجرّم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وينصّب المحاكم للمسؤولين الأحياء منهم والأموات، ستكون خارج نسق تلك العلاقات والروابط، ولا يصبّ في مجرى الارتفاع بها إلى مستويات تتجاوز الإسفاف والمكايدات الرخيصة، كما جسّدها قانون تمجيد الاستعمار بالذات. هذا ما يدركه النظام الجزائري غاية الإدراك. لا أحد ينكر ما ارتكبته فرنسا الاستعمارية في بلادنا من جرائم طوال الليل الاستعماري البهيم. الفرنسيون أنفسهم يعترفون بذلك، وكتاب "عارنا في الجزائر" للفيلسوف ذائع الصيت جان بول سارتر لا يزال يشهد عليها. الصعوبة تكمن في تحويل رأي وموقف أدبي أخلاقي إلى مادة قانونية قابلة للتطبيق بأثر رجعي على أعمال طواها التاريخ. هناك الجرائم ضد الإنسانية كمفهوم عصري منذ محاكمات النازيين في نورنبرغ. وقد اسْتُند إلى هذا المفهوم وإلى ما نشأ عنه من مواد في القانون الدولي لجرّ متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام محكمة الجنايات. وغني عن القول إن القانون الدولي يتطلب لتطبيقه في حالات معينة إجماعا بين القوى الكبرى النافذة، إجماع ليس في مقدور بلد مثل الجزائر الدفع نحو توفيره، ثم جرّ فرنسا إلى قفص الاتهام ومحاكمتها عن الجرائم ضد الإنسانية، جرائم غير قابلة للتقادم. يمكن أن تقوم محاكم شعبية أو محاكم تقيمها جمعيات ومثقفون، مثل محكمة برتراند راسل، الفيلسوف الإنجليزي المعاصر، التي حاكمت الاستعمار بكل أشكاله وأدانته.
حضور لا فكاك منه
فرنسا دائما حاضرة بكيفية من الكيفيات في المنحى الذي تأخذه الأحداث في الجزائر. قد لا نصلُ في تخرّصاتنا هاته إلى حدّ الزعم أن "فال دو غـراس" هو من أنقذ حياة رئيس الدولة الجزائري، لكن للواقعة وزنها في كفتي العلاقات بين البلدين. علاج رئيس الدولة الجزائري ذاك في مشفى فرنسي، جاء تتويجا لسلوكٍ دأب عليه رجال الدولة النافذون منذ رحيل هواري بومدين، وعلى رأسهم كثيرون من "أصحاب البزولة" السابقين. كان بومدين يفضّل مشافي المعسكر الشرقي. الشاذلي بن جديد فضّل هو الآخر اللجوء إلى سويسرا لمعالجة عموده الفقري، لكنّ ذلك لم يحل دون قيام علاقات شخصية قوية بينه وبين الراحل ميتيران، إلى درجة أوعزت فيها "دوائر جزائرية عليا" بحذف المقطع الشهير من النشيد الرسمي الجزائري بإلحاح من ميتيران، بل تشكلت خلال عهد الشاذلي بن جديد لجنة من بعض شعراء البلاط لإعادة صياغته. يذكر أن الراحل محمد الشريف مساعدية، الذي أخرجه بوتفليقة من النسيان ونصبه على رأس مجلس الأمة، توفي في مشافي باريس. ومن غريب الصدف أن الشخصية التي خلفت مساعدية كانت البشير بومعزة، مؤسس جمعية 8 ماي 45 التي دأبت على جمع ملف ضخم عن جرائم فرنسا غداة الحرب العالمية الثانية في بعض جهات الوطن، تمهيدا لرفعه إلى الجنايات الدولية كجرائم ضد الإنسانية.
فرنسا، أو بعض القوى داخلها، ليست مهيأة بعد للشفاء من مرض إسمه الجزائر. الجزائريون طردوها من بلادهم بفضل ثورة عارمة توّجت سلسلة متواصلة من المقاومة. كان الثمن باهضا. كان حدثا تاريخيا مجلجلا. يمكن لقوى اليمين ولأصحاب الحنين إلى ماضي فرنسا الاستعماري أن يسنوا ما أرادوه من قوانين وأن يصدروا ما شاءوا من نصوص قد تساعدهم في مواجهة تبكيت الضمير. الثورة الجزائرية ستبقى عظيمة شامخة. ولن يقلّل من عظمتها قانون سخيف هناك أو مشروع قانون هزيل هنا، هدفه ليس الدفاع عنها بقدر الدفاع عن المراكز المكتسبة للمنتفعين منها والمتاجرين بها. الدليل؟ بمجرّد أن صعّرت فرنسا خدها، جرى سحب مشروع القانون إياه وعوقب "صاحب المبادرة" أقسى عقاب!
ب. علاوة
- العجيسيعضو خبير متطور
- عدد الرسائل : 1595
البلد :
نقاط : 1727
السٌّمعَة : 27
تاريخ التسجيل : 11/11/2009
رد: تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.. هل هو فعل ممكن وملائم؟
السبت 15 مايو 2010, 10:29
تمجيد الاستعمار الفرنسي يعني تعبيد الطريق الى مصالحها المادية في الجزائر .اما تجريم الاستعمار المقصود منه تعبيد الطريق الى الداخل لاجل مصالح معنوية في غياب اليقين وهشاشة المناعة .
بين المصلحة المادية لفرنسا والمصلحة المعنوية للجزائر نجد الاولى اكثر واقعية في دفاعها عن مصالحها بالفعل, في الوقت نفسه نجد الجزائر تهاجم فرنسا بشكل انفعالي لتأكيد سطحي للجربمة ومحاولة منها لأعادة تعبئة وتشكيل الداخل في مواجهة معارضيها في الداخل.
اعتقد ان شعارات مثل تجريم فرنسا ووتسييس الكرة القدم المبالغ فيه, يوحي بضعف فكرى وسلطة الاديولوجى في اوساط الاسرة الثورية وعدم القدرة للوصول الى حلول واختراق الواقع .
أعتقد ان المطالبة بالاعتدار والتعويض ليس مسؤلية ج.ب.الوطني وحدها بل مسؤلية المجتمع المدنى كله في استرجاع حقه من فرنسا بطرق قانونية وبشتى الوسائل,
بالمناسبة......
اما عن الاعتدار الايطالى لليبيا ليس اعتدرا بل صفقة وهو في الحقيقة كان خدمة جليلة تصب في الاستقرار السياسي لنظام القدافي وتوريث الحكم على حساب الشعب الليبي المسلوب,
ا
بين المصلحة المادية لفرنسا والمصلحة المعنوية للجزائر نجد الاولى اكثر واقعية في دفاعها عن مصالحها بالفعل, في الوقت نفسه نجد الجزائر تهاجم فرنسا بشكل انفعالي لتأكيد سطحي للجربمة ومحاولة منها لأعادة تعبئة وتشكيل الداخل في مواجهة معارضيها في الداخل.
اعتقد ان شعارات مثل تجريم فرنسا ووتسييس الكرة القدم المبالغ فيه, يوحي بضعف فكرى وسلطة الاديولوجى في اوساط الاسرة الثورية وعدم القدرة للوصول الى حلول واختراق الواقع .
أعتقد ان المطالبة بالاعتدار والتعويض ليس مسؤلية ج.ب.الوطني وحدها بل مسؤلية المجتمع المدنى كله في استرجاع حقه من فرنسا بطرق قانونية وبشتى الوسائل,
بالمناسبة......
اما عن الاعتدار الايطالى لليبيا ليس اعتدرا بل صفقة وهو في الحقيقة كان خدمة جليلة تصب في الاستقرار السياسي لنظام القدافي وتوريث الحكم على حساب الشعب الليبي المسلوب,
ا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى