- المسلمعضو خبير
- عدد الرسائل : 687
العمر : 43
الموقع : بورسعيد
البلد :
نقاط : 1007
السٌّمعَة : 6
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المعتزله للدكتور مصطفى محمد
الجمعة 14 يناير 2011, 01:47
المعتزلة للدكتور مصطفى محمد
مقدمــة:
قبل أن نبدأ الكلام عن هذه الفرقة، فقد يقول البعض إن هذه الفرقة زالت وانتهت، فما الفائدة من الكلام عنها؟!
أقول نعم زال اسمها، لكن كثيرًا من آرائها ما زالت باقية، إضافة إلى ما نلاحظه من دعوة بعض المعاصرين لإحيائها، بدعوى أنهم رواد الفكر الحر.
وقال الدكتور مانع الجهني:
بعد أن كاد الاعتزال ينتهى كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم، عاد الفكر الاعتزالي من جديد في الوقت الحاضر على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة، وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث.
الفكر الاعتزالي الحديث:
يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد.. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل… العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي..
وقد قَوَّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني.. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل، ثم أخذوا يلتمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية.. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل.. إلا من هذا القبيل.
وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.
وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي.. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة.. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود وغير ذلك.. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث.. إلخ.. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله.. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر.
ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث: سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية، وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة والمرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه:"أستاذ الجيل"، وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي"، وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية. ( مع احترامنا الكامل للكاتب فأن هؤلاء الاقزام من غلاه العلمانيه الغربيه فكرا ومنهجا وعقيده ولا يجوز اعتبارهم من المعتزله ( كلام من شخصى انا ) )
أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي مُنِحَ لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع، وأحل الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم.
وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحل زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة.
ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام.. مثل زكي نجيب محمود صاحب نظرية (الوضعية المنطقية) وهي فرع من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص123).
ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤها، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام : في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة"
ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي فى تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور.. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: "إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً".
وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجنهاد وتطويره، وتقويم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية.. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة –صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه- وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا، وغيرهم. ولاشك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه –اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه– فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب اتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة.
المبحث الأول
في نشأة المعتزلة
تقديم: في تعريف المعتزلة في اللغة والاصطلاح:
نعريف المعتزلة في اللغة: الاعتزال معناه: الانفصال والتنحي، والمعتزلة هم المنفصلون. هذا في اللغة
أما المعتزلة في الاصطلاح: فهم اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجاً عقلياً متطرفاً في بحث العقائد الإسلامية، وهم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري.
المطلب الأول - أصل تسمية المعتزلة:
يقول الشهرستاني:"دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعْتَزَلَنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة".
المطلب الثاني - أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها:
القسم الأول: ما أطلقه الغير عليهم:
1. المعتزلة: بمعنى المنشقين، وقد بينا سبب تسميتهم بهذا الاسم عندما تكلمنا على أصل المعتزلة.
2. الجهمية: وسبب تلقيبهم بهذا اللقب هو أنه لما كانت الجهمية سبقت المعتزلة في الظهور واشتهرت ببعض آرائها، إلا أن سبقها للمعتزلة سبق قريب، ثم لما خرجت المعتزلة كانت قد وافقت الجهمية في مسائل كثيرة، منها: نفي الرؤية والصفات، وخلق الكلام، فكأن توافق الفرقتين جعلهما كالفرقة الواحدة، وبما أن الجهمية أسبق ومسائلها أكثر وبعض مسائل المعتزلة مأخوذة منها، لذا أصبح يطلق على كل معتزلي جهمي، ولا يطلق على كل جهمي معتزلي، ولذلك أطلق أئمة الأثر لفظ الجهمية على المعتزلة، فالإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية"، والبخاري في الرد على الجهمية، ومن بعدهما إنما يعنون بالجهمية المعتزلة، لأنهم كانوا في المتأخرين أشهر بهذه المسائل من الجهمية.
وقال الإمام ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" : "لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى.. وطلبوا أهل السنة للمناظرة.. لم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية، وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، لأن جهماً أشد تعطيلاً لنفيه الأسماء والصفات…"
3. القدرية: كذلك يلقب المعتزلة بالقدرية، يقول البغدادي –وهو يسوق ما أجمعت عليه المعتزلة- : "…وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير. ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية". إلا أن المعتزلة لا يرضون بهذا الاسم ولذا يقولون: إنه أولى أن يطلق على القائلين بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
4. الثنوية والمجوسية.
5. مخانيث الخوارج.
6. الوعيدية.
7. المعطلة.
القسم الثاني: ما أطلقوه على أنفسهم:
1. المعتزلة: سبق أن ذكرنا هذا الاسم من ضمن أسمائهم التي سماهم بها غيرهم، ونورده هنا من ضمن الأسماء التي تسموا بها، وذلك أنهم لما رأوا أنه لا خلاص لهم من هذا الاسم، أخذوا يبرهنون على فضله، وأن المراد به الاعتزال عن الأقوال المحدثة والمبتدعة، وبرهنوا على ما يقولون ببعض النصوص مثل قوله تعالى: ] واهجرهم هجراً جميلاً[. وذلك لا يكون إلا بالاعتزال عنهم.
2. أهل العدل والتوحيد: يروي المقبلي أن المعتزلة كانوا يطلقون على أنفسهم أهل العدل والتوحيد والعدلية، ولذا يقول: " وتسمى المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد"
المطلب الثالث - تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم:
والرأي الأقرب للصواب –والله أعلم- قول الأكثرية، وهو أن رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء، وأنه نشأ في سنة بين 105إلى 110 للهجرة في البصرة نتيجة للمناظرة في أمر صاحب الكبيرة ثم خروج واصل برأيه المخالف لشيخه الحسن البصري، وبعد ذلك أضاف إلى رأيه في مرتكب الكبيرة آراء أخرى أصبحت فيما بعد من أصول المعتزلة، ومن ئم أخذ كل عالم من علمائهم يأتي برأي حتى تكونت هذه الفرقة.
وأما المكان الذي نشأ فيه الاعتزال، فإنه يكاد يجمع الباحثون على أنه البصرة.
المبحث الثاني
فــرق المعتزلة
الفرقة الأولى: الواصلية:
أتباع أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال مولى بني ضبة، ولد سنة 80هـ، ونشأ على الرق، وتتلمذ على الحسن البصري، ولم يفارقه إلى أن أظهر مقالته في المنزلة بين المنزلتين، وهو مؤسس فرقة الاعتزال، توفي سنة 131هـ. وهو الذي وضع الأصول الخمسة التي يرتكز عليها الاعتزال.
الفرقة الثانية: العمرويَّة:
أتباع عمرو بن عبيد بن باب، مولى بني تميم، ولد سنة 80هـ وتوفي سنة 144هـ، كان جده من سبي كابل، عاش في البصرة وعاصر واصل بن عطاء وكان ترباً له، وزوجه واصلٌ أخته، وقد أصبح شيخ المعتزلة بعد واصل، وشاركه في جميع أقواله وزاد عليه.
الفرقة الثالثة: الهذيليَّة:
أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله البصري العلاف، ولد سنة 113هـ وتوفى سنة 226، وقيل سنة 235، وقيل سنة 237 في خلافة المتوكل، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل أحد أصحاب واصل بن عطاء. وقد أطلع على الفلسفة اليونانية فجاءت أقواله متأثرة بها.
الفرقة الرابعة: النظَّامية:
أتباع أبي إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ المعروف بالنَّظَّام، سمي بهذا الاسم لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولد سنة 185هـ، وتوفي سنة 231هـ، أعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولذلك أنكر إعجاز القرآن وما رُوِىَ من معجزات الرسول e ليتوصل بذلك إلى إنكار نبوته e، ثم إنه استثقل أحكام الشريعة فأبطل الطرق الدالة عليها، ومن ثَم أبطل حجية الإجماع والقياس في الفروع، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري، وطعن في فتاوى الصحابة، وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث مع الخوارج والشيعة، والنجَّارية، وأكثر المعتزلة متفقون على تكفير النَّظَّام.
وممن قال بتكفيره من شيوخ المعتزلة أبو الهذيل والجبائي والأسكافي وجعفر بن حرب، وكتب أهل السنة في تكفيره تكاد لا تحصى.
والمعتزلة قد افترقوا إلى ما يقارب اثنتين وعشرين فرقة يجمعها آراء وهي الأصول الخمسة، وتختلف في آراء أخرى. والفرق غير السابقة هي:
الثمامية، والمعمرية، والبشرية، والهشامية، والمراديَّة، والجعفرية، والأسوارية، والأسكافية، والخابطية، والحدثية، والمويسية، والصالحية، والجاحظية، والشحَّامية، والخياطية، والجبائية، والكعبية، والبهشمية، والحمارية.
عقائد المعتزلة:
يقول محمد العبدة:
طبيعة البحث في فكر المعتزلة قد يجرنا إلى متاهات ومعميات (علم الكلام) الذي كان للمعتزلة السبق في ابتداعه أول الأمر. إلا أننا سنحاول جاهدين أن نتخطى تلك العقبة بأن نكتفي بالحديث عن أصول ذلك الفكر لدى تلك الفرقة دون الدخول في كثير من التفصيلات التي لا حاجة لنا وللقارئ إليها.
لذا سنتناول في هذا الباب من هذا البحث نشأة علم الكلام وآثاره، ذلك العلم الذي قدر له أن يسيطر لعهود متطاولة على فكر كثير من المسلمين على أنه (علم التوحيد) الذي يجب أن تجتمع عليه عقائد العامة والخاصة، والذي كانت نشأته على يد المعتزلة، وتأثر به الأشاعرة من بعد، وكان من آثاره ذلك الخلط في مفهوم التوحيد والذي أدى بدوره إلى الانحطاط والتقليد والإغراق في المباحث اللفظية، ثم بينا رأي أهل السنة في ذلك العلم وأقوال أئمة الكلام أنفسهم في مدى غنائه.
علم الكلام:
كانت الهمة الأساسية والأولى للإسلام هي تقرير التوحيد تقريراً واضحاً صريحاً لا لبس فيه، وإقراره في العقول والقلوب إقراراً يدفعها إلى العمل به، والتزام شريعته ومنهاجه في كافة نواحي الحياة، ثم نفي الشرك –المضاد لهذا التوحيد- نفياً تاماً في أي صورة من صوره، وتحت أي اسم أو شعار يختفي من وراءه.
وقد انتهج القرآن الكريم منهجاً خاصاً في تقرير تلك العقيدة وإقرارها، فاتجه إلى الفطرة الإنسانية يخاطب ما هو مركوز فيها من معانٍ تجعل الإيمان بوجود الخالق، وضرورة عبادته وحده أمراً بديهياً لا حاجة فيه لجدل أو سفسطة
لفت القرآن الأنظار إلى الآيات المبثوثة في الكون والنفس، قال تعالى ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت[ وقال تعالى ] إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، وحمل الإنسان على التفكير في خلق نفسه، وفي خلق آيات الكون، وفي إخراج النبات الحي من الأرض الميتة، ليدفعه من خلال تلك الصور إلى التفكر ثم التعقل فالتذكر. ]خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون[ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين).
ثم عرض لصفات الباري سبحانه فأوضحها بأسهل طريق وأبين لفظ، قال تعالى: ]قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وقال تعالى: ]ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
بهذه النصاعة الرائقة، وبهذا الأسلوب البين، وبهذا المنهج الهين اللين الذي لا عوج فيه ولا أمتا، قرر القرآن التوحيد، هذا المنهج الذي يتوجه إلى الفطرة السليمة يلتمس فيها مواطن البديهة العاقلة فيهديها برفق وعمق إلى الحق فتعتقده، ويزكي فيها مكنونات الوجدان والشعور فيدفعها بقوة إلى التعلق برب العالمين
وقد أحسن الرعيل الأول من صحابة رسول الله e في استيعابهم لمقررات القرآن على الطريقة التي قررها، فأحكموا المحكم منه، وردوا إليه متشابهه ليستبين لهم وجه الحق فيه، ولم يضربوا آياته بعضها ببعض ليجعلوا القرآن عضين، بل ركزوا جهودهم على القيام بحقه عملاً لا قولاً، ففتح الله بهم البلاد، وهدى بهم قلوب العباد، حتى أصبح اقتفاء آثارهم هدى، والعدول عن نهجهم ضلالة تفترى.
لكن الأمر لم يستقم على هذا المنوال، فما أن قضى جيل الصحابة –أو كاد- وما أن فتحت البلدان على المسلمين وتوسعت الرقعة التي يظلها الإسلام بظله، حتى تأثر المسلمون بما وفد عليهم من عوامل ومؤثرات وحتى اختلطوا بأبناء الأمم المفتوحة، الذين كانوا متأثرين بسابق حضاراتهم، وما تحمله ثقافاتهم ودياناتهم من أفكار ومعتقدات، بل ومناهج نظر وبحث تختلف باختلاف تلك الأمم. إلى جانب أن الكثير من أبناء تلك الأمم قد دخلوا الإسلام حاملين ذلك التراث المثقل بركام
التصورات القديمة، والمناهج الضالة فكانوا كبذور الفتنة وقد ألقيت في تربة الإسلام، فترعرع منها ما ترعرع من شقاق وتفرق، هذا إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من اتساع نطاق الترجمة والنقل من الثقافات الأخرى خاصة اليونانية في مجال الفلسفة والمنطق.
كل تلك العوامل أدت إلى نشأة ما عرف بعلم "الكلام" أو "علم التوحيد" كما أطلقوا عليه.
قد ارتبط علم الكلام هذا منذ أول نشأته بظهور فرقة المعتزلة أو ظاهرة "الاعتزال" في الواقع الإسلامي، وإن تسرب بعد ذلك إلى طوائف أخرى من الفرق المبتدعة كالروافض والمرجئة، بل شاع في أوساط كثير من العلماء وكتاباتهم منذ عهد أبي الحسن الأشعري ومن انتسب إليه من الأشاعرة الذين وإن خالفوا المعتزلة في العديد من القضايا، إلا أنهم وافقوهم في انتهاج منهج الكلام في صياغة العقيدة، وقد سمي من انتمى لذلك النهج "المتكلمين"، فكان هناك متكلمو المعتزلة، ومتكلمو الأشاعرة، ومتكلمو الروافض …
تعريف علم الكلام وأمثلة منه:
تعريف هذا العلم عند أهله –على اختلافهم في تعريفه- أنه: العلم بالعقائد الدينية عن طريق الأدلة اليقينية (أي العقلية في اصطلاحهم).
لا بأس هنا أن نعرض مثالين يوضحان طريقة تناولهم لمسائل العقيدة الإسلامية، والمنهج الذي انتهجوه لإثباتها:
أولاً: إثبات وجود الله سبحانه:
أراد علماء الكلام أن يثبتوا وجود الله سبحانه، ثم إثبات النبوات بعد ذلك، حتى يمكن تلقي الأمور الخبرية عن النبوة ويكون ذلك التلقي مبنياً على يقين عقلي، فاستدلوا بدليلين مشهورين:
أولهما: دليل الحدوث، وملخصه: أن الأجسام الموجودة في العالم تتكون من أجزاء، وهذه الأجسام يمكن قسمتها إلى أجزاء.. وهكذا، ولكن هذا التقسيم لا يستمر إلى مالا نهاية، بل يجب الوقوف عند جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي لا يتجزأ هو الجوهر الفرد، وكل الجواهر تتعرض لحالات مختلفة كالحركة والسكون.. وهذه الأحوال يطلقون عليها الأعراض، وهي حادثة لأنها متغيرة، وما دامت الجواهر لا تنفصل عن الأعراض، والأعراض حادثة، فالجواهر إذن حادثة، والأجسام حادثة، والعالم حادث، ومن ثَم فلابد له من محدث وهو الله سبحانه.
ثانيهما: دليل الممكن والواجب، ويتلخص هذا الدليل في أن كل ما يوجد في العالم كان من الممكن أن يوجد على نحو مخالف لما هو عليه، ومن الممكن أن يخلق الله عالماً أفضل من هذا العالم الحالي، بل من الممكن في هذا العالم أن يصعد الحجر إلى أعلى وأن يهبط اللهب إلى أسفل، وإذا كان الأمر كذلك فالعالم حادث، ولابد له من محدث، وهو الله سبحانه .
ثانياً: إثبات اليوم الآخر:
نهج علماء الكلام لإثبات وجود اليوم الآخر نهجاً جدلياً بعيداً عن العقل المنطقي السليم، فقالوا إن وجود اليوم الآخر ممكن، لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال، فما المانع إذن أن يوجد يوم آخر عقلاً؟.
ولا شك أن هذه الطريقة الجدلية لا تقف أمام مجادل جَلْد، إذ أنه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليهم – أن إمكان الوقوع لا يعني بالضرورة تحقق الوقوع، والممكنات كثيرة لا تدخل تحت حصر ولكن الموجودات لا تمثل إلا جزءاً منها، فما يمنع –حسب قولهم- أن يكون اليوم الآخر من هذا الممكن الذي لا يتحقق؟.
مآخذ أهل السنة على علم الكلام ومنهجه:
أولاً: مخالفة منهج علم الكلام للمنهج القرآني في عرض العقيدة:
ذكرنا في بداية هذا الفصل لمحة عن نهج القرآن في مخاطبة الناس، وأنه يخاطب الفطرة والعقل والقلب والشعور معاً، ونزيد الأمر إيضاحاً ليتبين لنا أن علم الكلام قد انتهج الطريقة العويصة الباردة التي لا هي طريقة قرآنية شرعية، ولا هي طريقة عقلية تصمد أمام مقررات العقل القوي الحجة، السليم الاستنباط في كثير من الأحيان.
ولنعد إلى المثال السابق عن إثبات اليوم الآخر لنرى الفرق واضحاً بينه وبين المنهج القرآني.
فالقرآن قد أثبت وجود اليوم الآخر بأدلة سهلة ميسرة، بعكس علم الكلام الذي حاول إثباته أولاً كقضية ذهنية، بأن قرر عدم استحالة ذلك، ثم انتقل إلى تقرير وجوده في الحقيقة بناءً على تلك المقررة الذهنية. أما القرآن فقد نحا منحى عقلياً واقعياً سهلاً ليصل إلى النتيجة المؤكدة.
فالإنسان يعلم إمكان وجود الشيء، تارة لعلمه بوجود نظيره أو ما يشبهه، وتارة بعلمه بوجود ما هو أكبر وأولى من هذا الشيء.
فإن ثبت إمكان وجود الشيء بهذين المسلكين، فلابد من بيان قدرة الله سبحانه على تحقيق وجوده بالفعل، فإن ثبت ذلك الأمر، كان لابد من بيان الفائدة التي تترتب على إيجاده بالفعل، إذ أن إمكان تحقق الفعل وقدرة الله سبحانه على إيجاده، وقد لا تعني إيجاده بالضرورة، بل تبقى الفائدة والغاية والمصلحة المتحققة من هذا الأمر، حسب حكمة الله سبحانه في إيجاده له.
وقد كان ذلك تماماً منهج القرآن في إثبات ذلك الأمر.
فقد قال تعالى: ]وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، وقال تعالى: أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد، فأثبت إمكان وجود اليوم الآخر لوقوع نظيره من الخلق الأول، بل إنه أهون عليه سبحانه في ذلك.
وقال تعالى: ] أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادرٍ على أن يخلقَ مثلهم بلى وهو الخَلاَّق العليم، فأوضح قدرة الله سبحانه على ذلك. وقال تعالى: لتُجزى كلُ نفس بما تسعى فوجود اليوم الآخر الذي قرره القرآن فعلاً، هو لحكمة إلهية عالية يتحقق منها العدل الإلهي، ويتقرر بها مبدأ الثواب والعقاب.
وقد استعمل القرآن الكريم نفس الأسلوب في تنزيه الله سبحانه عن الشرك والأبناء، فقال: ويجعلونَ للهِ البناتِ سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهُه مسوداً وهو كَظيم، وقال تعالى: ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانُكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتِكم أنفسَكم، فهو يقرر سبحانه أنه إذا كنتم تنزهون أنفسكم عن الأمور الناقصة وتكرهون البنات وتحبون الذكور، فكيف تجعلونها له من دونكم؟.
وإن كنتم لا تحبون أن يكون مملوككم شريكاً لكم ونظيراً فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوق لي ومملوك لي شريكاً يُدعى ويُعبد مِن دوني؟
وقد أشار سيد قطب رحمه الله تعالى في تعليقه على قوله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه، إلى أن المنهج القرآني –عكس منهج المتكلمين- لا يتحدث بطريقة جافة باردة في الموضوعات التي تمس المشاعر، والتي تحتاج إلى دفعة إيمانية نفسية قوية لتثبت في القلوب ثم العقول، كما فعل الله سبحانه حين أراد أن يقر في نفس الذي مر على القرية أن البعث أمر ميسور مقدور لله سبحانه، فإنه أماته هو نفسه ثم أحياه وأشهده بعث حماره رأي العين، دون جدل أو سفسطة
إذن فطريقة علم الكلام مبناها على "استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذاتهم بلزوم مسلماتهم، والتنقير والسؤال، وتوجيه إشكال ثم اشتغاله بحله، والمنهج القرآني يواجه الفطرة بشمولها ويخاطب الكينونة البشرية بكل ما تحتويه دفعة واحدة، فهو كالماء الذي ينتفع به الطفل الرضيع والرجل القوي، لذلك فقد اتبع السلف هذا المنهج في عرض العقيدة فقد "ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم اتبعه بكتاب الإيمان، الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي".
واتباع هذا المنهج حكمة وهداية، واتباع منهج المتكلمين فيه خبط وخلط ووعورة متكلفة.
ثانياً: إغفال توحيد العبادة الذي هو هدف الرسالات:
شاع إطلاق اسم التوحيد على علم الكلام وذلك نظراً لموضوعه الذي يبحث فى ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولما جرى بين المتكلمين وبين أصحاب الاعتقادات الباطلة كالمجوس والصابئة واليهود والنصارى من مجادلات ومناقشات حول ذات الله وصفاته والقضاء والقدر… بذلك الأسلوب اليوناني الذي أشرنا إليه من قبل، وقد حرص أرباب هذا العلم على إثبات تلك التسمية لشرفها من جهة، ولظنهم أن توحيد الربوبية هو المطلوب الأول للرسل والحقيقة أن هذا الإطلاق فيه شيء من التمويه قد يكون غير مقصود، إلا أنه قد انخدع به طلبة العلم وصاروا يتداولونه، وكأنه من البديهيات المسلم بها.
وكان من جراء ذلك أن ارتبط معنى التوحيد في الأذهان بتوحيد الربوبية بشكل عام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون: هو واحد في ذاته وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع".
هكذا جهد المتكلمون أعظم الجهد لإثبات ما أقر به المشركون، ومن ثم كانت الفجوة واسعة بين مفهوم التوحيد في العقيدة الإسلامبة ومفهوم التوحيد الكلامي عند أربابه، وهذا أدى بدوره إلى ذبول مفهوم الطاعة والاتباع، حتى اقتصر الأمر على مجرد أداء الشعائر، فلما جاء دور إقصاء الشريعة عن الحياة الإسلامية والتحاكم إلى غير شرع الله هان الخطب على الناس، وسهل الأمر على أدعياء العلم أن يغضوا الطرف عن ذلك الأمر الجلل، طالما أن توحيد الربوبية قائم في نفس الحاكم والمحكوم، وأن كتب التوحيد تتداولها الأيدي، ويتدارسها الدارسون. وكان هذا –في نظرنا- من أوخم نتائج الانحراف عن معاني التوحيد الحقيقي، وأسوئها أثراً في الحياة الإسلامية.
ثالثاً: وضع أصول للدين غير ما بيَّنه الله ورسوله:
وضع علماء الكلام أصولاً هي ما قرروه من مشكلات وحلها، ومقدماتها ولوازمها، وسموا ذلك "أصول الدين" واشترطوا على المسلم معرفتها ليصح إسلامه، فعليه أن يعرف أدلة حدوث العالم، وأدلة التمانع والجوهر والعَرَض، وقواعد الحركة والسكون.. إلى غير ذلك مما قرروه في كلامهم، وجعلها بعضهم أول الواجبات على المكلَّف وهي المعرفة وليس أول الواجبات النطق بالشهادتين: "وقد وضع لهم القاضي أبو بكر الباقلاني المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب إعتقادها".
وقد أوضح شارح العقيدة "الجوهرة" مذاهب الناس في أول الواجبات على المسلم فقال: "وأهم الأقوال في أول الواجبات: أولاً: ما قاله الأشعري إمام هذا الفن: المعرفة.
ثانياً: ما قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني : أنه النظر الموصل للمعرفة.
ثالثاً: ما قاله القاضي الباقلاني: أنه أول نظر، أي المقدمة الأولى منه.
رابعاً: ما قاله إمام الحرمين: أنه القصد إلى النظر، أي تفريغ القلب عن الشواغل.
خامساً: ما قاله بعضهم: من أنه التقليد.
سادساً: أنه النطق بالشهادتين"!!. ثم عقب بتصحيح الآراء الثلاثة فقال:
"والأصح أنه أول واجب غاية: المعرفة، وأول واجب وسيلة: تربية النظر، وأول واجب وسيلة بعيدة: القصد إلى النظر، وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة"
ولا ريب أن ما تقدم يخالف ما عُلم من الدين بالضرورة من أنه أول واجبات المسلم هي النطق بالشهادتين واعتقاد معناهما من توحيد الله وعبادته وحده وضرورة إتباع الرسالة، وأما المعرفة الكلامية، والنظر الموصل إليها وأمثال ذلك فهو مما لا يفترض على المسلم لا أول واجب ولا آخره، وإنما التزموا ذلك لما أطلقوا على مقدماتهم اسم "أصول الدين"، ومعلوم أن أصول الدين يجب على الجميع أن يعرفها وأن يقر بها ليصح إسلامه وأصول الدين التي هذا شأنها مع المسلم، قد بينها الله ورسوله أوفى بيان ولم يدع للمتكلمين مهمة الاستدراك عليه فيها.
"ولهذا قد اعترف بهذا من أهل الكلام كالأشاعرة وغيرهم، بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها طريقة باطلة"(
رابعاً: تعظيم دور العقل وجعله حاكماً لا محكوماً:
ذلك أن أرباب الكلام قد عظموا العقل وارتضوا أحكامه فيما لا يصلح أن يكون فيه حكماً، فقد كانوا يطرحون المسألة، ثم يعرضونها على العقل –عقل الواحد منهم طبعاً- فيستجمع لها الأدلة كما يتراءى له لإثباتها على وجه من الوجوه، وحين يصل إلى نتيجة وينتهي إلى قرار يعمد إلى الأدلة السمعية فيؤول منها ما لا يوافق نتيجته –إن كانت من آيات الله- أو يرد الحديث بدعوى تناقضه مع العقل أو أنه مبني على الظن.
يتضح مذهبهم هذا في موقفهم من خبر الواحد مثلاً، فإنهم أنكروا حجيته مطلقاً في الاعتقاد، وأما في باب الأعمال فقد جعلوا من شروط قبوله أن يكون في متن الخبر ما يجوزه العقل ومالم يحتمل تأويلاً صحيحاً فخبره مردود لاستحالة هذا في العقول، ولهم في رد الأحاديث بهذا المنطق فضائح يرجع إليها في مثل كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة.
وقد وافق بعض كبار الأشاعرة المعتزلة في نسجهم على هذا المنوال، فقالوا إن اليقين لا يثبت إلا بالعقل، وأن المعتمد هو العقل عند التضارب.
وإنما أُتى هؤلاء من ظنهم أنه قد يكون هناك تعارض بين دليل عقلي قطعي ودليل نقلي صحيح، ومن ظنهم أن الدليل النقلي لا يتضمن الدليل العقلي، مع أن القرآن مليء بالأمثال وهي أقيسة عقلية، ثم كيف تتعارض نصوص الكتاب والسنة مع العقل والكل من عند الله سبحانه؟!.
خامساً: اتخاذ الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدين:
ذلك أن منهج علم الكلام أصلاً بني على: "إن قالوا ..قلنا" أي طريقة الجدل والمراء والخصومة، فهو لازم مذهبهم، عليه بنيت أصولهم، كما رأينا من قبل في تعريف الغزالي له من أنه "إلزام للخصم بلوازم مستنتجة من مقدماته"، وكم أدت بهم هذه الطريقة إلى التزام ما لا يلزم، والانتهاء إلى نتائج قد لا يرضونها أصلاً، وإن أقروا بها خصومة وجدلاً وإشفاقاً من الفرار والتراجع أمام الخصم.
سادساً: النظر إلى الشريعة نظر النقص والافتقار:
ذلك أن متكلمة المعتزلة قد اعتقدوا في الشريعة التضارب والتخالف، فقد يثبت المعنى الذي يتوهمون في عقولهم، ثم يأتي الحديث الصحيح معارضاً لذلك المعنى، فتجدهم يفرون منه فرار المجذوم من الأسد، ويودون لو أن الحديث لم يرد أصلاً، وإن لم يجدوا مندوحة من قبوله لجأوا إلي تأويله أو رده بحجة أنه حديث آحاد مثلاً، وقل مثل ذلك في الآيات القرآنية التي تثبت عكس مقرراتهم.
وإنكارهم للأحاديث الصحيحة الثابتة وردهم لها بدعوى التناقض أكثر من أن يحصى، وقد جمع ابن قتيبة الكثير منها في كتابه "تأويل مختلف الحديث" وأوضح وجه الدلالة فيه، ونجتزئ بإيراد مثالين على ذلك.
1. قالوا حديث يدفعه النظر وحجة العقل رويتم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي e قال: "أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم، ورحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد، ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت". قالوا هذا طعن على إبراهيم، وطعن على لوط، وطعن على نفسه عليهم السلام.
قال أبو محمد (ابن قتيبة): فأما قوله: "أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام" فإنه لما نزل عليه ]وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبيقال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله e: أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم، تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه، يريد: إنا لم نشك، ونحن دونه فكيف شك هو ..."
2. قالوا حديث في التشبيه يكذب القرآن وحجة العقل! رويتم –يعنون أهل السنة- "أن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله…" فإن كنتم أردتم بالأصابع هنا النعم، وكان الحديث صحيحاً فهو مذهب، وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها فإن ذلك يستحيل لأن الله تعالى لا يوصف بالأعضاء.
قال أبو محمد: ونحن نقول أن الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث.. ولا يجوز أن تكون الإصبع هنا نعمة لقوله في الحديث الآخر "يحمل الأرض على إصبع، وكذا على إصبعين.." ولا نقول إصبع كأصابعنا ولا يد كأيدينا ولا قبضة كقبضتنا لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئاً منا"
فالدارس للشريعة، والمتأمل لمسائلها وحقائقها عليه "أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عَماية. كيف وقد ثبت في الشرع كمالها وتمامها؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطريق..وأن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأحاديث النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيع واحد، فإن أداه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلم من غير اعتراض
وبعـد، فإننا إن ذهبنا نستقصي ما جناه علم الكلام على الحياة الإسلامية من جرائر لما انتهى بحثنا إلى ما نريده من إيجاز واختصار، وإنما بقى أن ننقل نماذج من تقريرهم لمسائلهم، وتعقيدهم لمقدماتهم ونتائجها، حتى يستشعر القارئ صحة ما ذهبنا إليه من قلة غناء مثل هذا العلم، ويتنبه بنفسه إلى ما فيه من غموض والتواءات قد تشكل حتى على أصحابها.
انظر إلى كلام متكلمي الأشاعرة عن"القدرة الإلهية" يقول صاحب شرح جوهرة التوحيد: "وللقدرة تعلقات سبع أشار إلى واحد منها وهو الصلوحي القديم. .
ومعنى التعلق الصلوحي: صلاحيتها إلى الأزل للإيجاد والإعدام، والتعلقات الستة الباقية هي:
تعلق قبضة: وهو تعلقها بعدمنا فيما لا يزال قبل وجودنا.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل بعد العدم السابق.
تعلق قبضة: وهو تعلقها باستمرار الوجود بعد العدم.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإعدامنا بالفعل بعد الوجود.
تعلق قبضة: وهو تعلق باستمرار العدم بعد الوجود.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل حين البعث يوم القيامة.
والتعلق هو: طلب الصفة أمراً زائداً على قيامها بالذات"
ثم يزيد الدسوقي الأمر شرحاً وبياناً ! ! فيقول: " إن القدرة تتعلق بوجود الممكن اتفاقا تعلق تأثير، وكذا تتعلق بعدم الطارئ تعلق تأثير على المعتمد"!
ثم انظر إلى قولهم في تعلقات السمع والبصر:
"وللسمع والبصر تعلقات ثلاثة:
أولاً: خلوصي قديم، وهو صلاحيتها في الأزل لاكتشاف ذرات الكائنات وصفاتها بهما فيما لايزال!.
ثانياً: تنجيزي قديم: وهو انكشاف الذات العليا وصفاتها بهما انكشافاً يغاير انكشاف العلم، إذ لكل صفة حقيقة تخالف حقيقة الأخرى، غير أنهما لا يتعلقان بالأمور العدمية "كالسلوب" والأمور الثبوتية "كالأحوال".
ثالثاً: تنجيزي حادث: وهو انكشاف الممكنات بعد وجودهما بهما"
فانظر إلى هذا التعقيد والتخليط، وقارن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الكمال والجلال، مثل ما قال رسول الله e حين رفع الناس أصواتهم بالدعاء: (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب) هكذا دون تعلقات تنجيزية أو صلوحية!.
المراحل التي مر بها علم الكلام:
مر علم الكلام بأربع مراحل مختلفة تغيرت فيها موضوعات مباحثه، نوجزها فيما يلي:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة متقدمي المتكلمين، كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وخالد بن صفوان، ثم أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام
وقد تميزت هذه المرحلة بالتأثر بالمصطلحات اليونانية، وخاصة عند المتأخرين منهم كالعلاف، حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية، فترجم كتاب "الطبيعة" "وما بعد الطبيعة" لأرسطو، وقد ترجمه إسحاق الكندي، وقد كانت المباحث الكلامية في هذه المرحلة حسب موضوعاتها التي يتفق الكلام فيها دون وضع قواعد صريحة لهذا العلم، كما خلت من الاستعانة بعلم المنطق الأرسطي.
المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي دخل فيها الأشاعرة معترك "الكلام" في مقابل المعتزلة، ويمثلها من الأشاعرة أبو الحسن الأشعري مؤسس المذهب، وأبو بكر الباقلاني ، وهو الذي قام بوضع قواعد علم الكلام ومقدماته التي يحتاج إليها الدارس مثل إثبات الجوهر الفرد، وأن لا يقوم العرض بالعرض…إلخ.
ومن بعده إمام الحرمين أبي المعالي الجويني الذي صنف على هذه الطريقة كتابه "الشامل" ثم مختصره "الإرشاد" . ومن المعتزلة أبو هاشم الجبائي ومن بعده أبو عبد الله البصري، ثم القاضي عبد الجبار
المرحلة الثالثة: ويمثلها أبو حامد الغزالي والفخر الرازي حيث تتميز هذه المرحلة بمناقشة كلام الفلاسفة، وإدخال ذلك في "علم الكلام". يقول صاحب أبجد العلوم:" ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في متن الكلام للمتقدمين، فخالفوا الكثير من البراهين التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات". كما تتميز باستعمال المنطق الأرسطي في مقدمات علم الكلام ودراسة أدلته وبراهينه.
المرحلة الرابعة: ومنها البيضاوي صاحب "الطوالع" ومن بعده، وتتميز بالخلط بين مذاهب الفلسفة والكلام، واشتباه الأمر فيهما على الكاتب والقارئ جميعاً، ثم يأتي أصحاب التقليد المحض من أتباع الأشاعرة.
وقد ظهر اتجاه لدى كبار أئمة الكلام من الأشاعرة يدعو إلى التحذير من إشاعة علم الكلام بين العامة، وزعموا أنه يجب قصر ذلك على الخاصة أو من رام الاجتهاد والعلو في الدين، وما نرى ذلك إلا رد فعل لما رأوه من أثر انتشار هذه المباحث على عقيدة الناس، واستقبالهم لعقائد الإيمان ومدى تأثرهم بالقرآن منهجاً وأسلوباً، وما شاع من اختلاط في الأفهام واضطراب في المفاهيم، ومن هؤلاء الأئمة أبو المعالي الجويني في كتابه "الغياثي" حيث صرح بأن من أراد الارتقاء عن مرتبة العوام فله أن ينظر في كتب الكلام التي وضعها، أما العامة فعلى إمام المسلمين أن يجمعهم على عقيدة السلف، وينهاهم عن الخوض في المعميات وتكلف وارد المشتبهات. وقد تابعه تلميذه الغزالي في هذا الرأي في مصنفه "إلجام العوام عن علم الكلام".
ذم السلف الصالح لعلم الكلام:
وقد ذم سلف الأمة علم الكلام، ونهوا عن الخوض فيه أشد النهي، مما يؤكد نفورهم منه، وعدم إجازتهم له وأنه لا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً.
قال الشافعي رحمه الله: "لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه –ما عدا الشرك- خير له من أن ينظر في الكلام"، وقال: "حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يصلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة"
وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".
وعن أبي يوسف: "من طلب المال بالكيمياء فقد أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق"([60]).
ونقل مثل ذلك الاعتقاد علي بن المديني وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وإسحاق بن إبراهيم، والقاسم بن سلام، والليث بن سعد، ومالك، وسفيان الثوري وغيرهم من علماء الأمة الأجلاء، وكلهم ينهون عن النظر في كتب المتكلمين، ويأمرون بترك مجالستهم وهجرانهم .
رجوع طوائف من المتكلمين إلى الحق:
وقد رجع العديد من أئمة المتكلمين إلى الحق من عقيدة السلف الصالح في إثبات الصفات وغير ذلك، ونهوا عما أحدثوه من قبل من كلام في دقائق العقيدة، وأعلنوا التوبة منه والرجوع عنه.
قال الفخر الرازي –في وصيته التي وردت في كتاب: عيون الأنباء- : "ولقد اخترت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمتنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات.. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله به.. والذي لم يكن كذلك أقول ديني متابعة محمد سيّد المرسلين".
وكان أبو المعالي الجويني يقول: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به".
أما أبو حامد الغزالي فإنه لم يجد له مغنى في [الكلام]، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع الصحيحين، فيقال أنه مات وصحيح البخاري على صدره، ولكنه توفي قبل أن يظهر أثر ذلك في كتبه.
وأما مؤسس المذهب: أبو الحسن الأشعري، فالغريب أن المنتسبين إليه من المقلدة لا يكادون يلقون بالاً إلى حقيقة أنه رجع بنفسه عن منهج الكلام وعن اعتقادات الأشاعرة، وأقر بانتسابه إلى مذهب الحق الذي يمثله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في عصره وصنف كتابه الأخير على هذا المذهب وهو "الإبانة عن أصول الديانة".
فكل هؤلاء الأئمة هم من أجلّ أئمة المتكلمين من الأشاعرة، قد ذكروا طريقتهم السابقة، ولو أنها كانت الحق لما زيفوها، وأبانوا عوارها ونقصها، وجعلوا في خاتمة عمرهم يتبرؤون منها… فياليت المحْدَثين من المنتسبين لفكرهم والمقلدين لهم يعتبرون بهذه الحال.
أما عن متكلمي المعتزلة، فإنه لم يعرف عن أحدهم أنه تاب وأناب، وما هذا إلا لإيغالهم في الباطل، وعدم توجه نياتهم لطلب الحق أصلاً، وأنهم رؤوس البدعة، والمنشؤون لها.
الفصــل الثاني
عقائد المعتزلة
تكاد فرق المعتزلة وكبراؤهم يجمعون على أن للاعتزال أصول خمسة تدور حول عقائدهم وقضاياهم، وقد تسلسلت من خلال كل أصل منها عدة مسائل، فكان لابد لهم –وقد أخذوا من عقولهم هادياً- أن يسيروا وراء تلك المسائل، ويلتزموا بالنتائج التي تؤدي إليها.
ومن هذه الأصول، أو على رأس هذه الأصول: نفي الصفات (أو التوحيد كما أطلقوا عليه)، فمن خلال استدلالهم العقلي على وجود الله سبحانه التزموا بنفي الصفات، وأداهم ذلك إلى إثبات خلق القرآن، وإلى عدم رؤية المؤمنين لله سبحانه يوم القيامة، وإلى نفي استواء الله على عرشه من فوق سماواته كما أخبر في كتابه الكريم، فناقضوا بذلك محض العقيدة الإسلامية التي ثبتت بنصوص الكتاب والسنة، ونقلها صحابة رسول الله e ومن بعدهم التابعون وتابعوهم من سلف هذه الأمة، أهل القرون الثلاثة الفضلى.
ومن هذه الأصول: نفي القـدر (أو العـدل كما أسموه) والذي نشأ من قياسهم الفاسد لعدل الله تعالى على عدل البشر، فأداهم ذلك إلى القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وليست من خلق الله، بل ولا يقدر على خلقها عند بعضهم! إذ هو سبحانه لا يقدر على الظلم ولا يريده لأنه لا يحبه ولا يرضاه، ومن ثَم أوجبوا على الله تعالى أن يفعل الصالح للعباد!! كذلك فالعباد وحدهم قادرون على إدراك الخير والشر والحسن والقبح بالعقل دون الشرع ، إذ في الأشياء ذاتها قبح وحسن ذاتي، ومن ثم فهم محاسبون ومعاقبون على أفعالهم، ورد الشرع بذلك أم لا!.
ثم خلطوا في مسائل أخرى كالتولد والاستطاعة، وكثيراً من تلك الأمور التي استلزمتها مقدماتهم العقلية التي ساروا وراءها حتى النهاية فهلكوا وأهلكوا.
وكذلك في سائر أصولهم الخمسة التي هي المنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وسنحاول في الصفحات التالية أن نفصل ما أوجزناه من أصولهم ونتتبع ما ألزموا به أنفسهم خطوة خطوة حتى اكتملت لهم هذه العقائد.
الأصــول الخمســة
الأصل الأول: التوحيد عند المعتزلة
تمهيـد:
هذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة الخمسة، وهو عندهم يدور حول ما يثبت لله وما ينفى عنه من الصفات، ويدل على ذلك تعريفهم له.
يقول القاضي عبد الجبار –وهو يعرف التوحيد لغة واصطلاحاً- : "والأصل فيه أن التوحيد في أصل اللغة عبارة عما يصير به الشيء واحداً، كما أن التحريك عبارة عما به يصير به الشيء متحركاً، و
مقدمــة:
قبل أن نبدأ الكلام عن هذه الفرقة، فقد يقول البعض إن هذه الفرقة زالت وانتهت، فما الفائدة من الكلام عنها؟!
أقول نعم زال اسمها، لكن كثيرًا من آرائها ما زالت باقية، إضافة إلى ما نلاحظه من دعوة بعض المعاصرين لإحيائها، بدعوى أنهم رواد الفكر الحر.
وقال الدكتور مانع الجهني:
بعد أن كاد الاعتزال ينتهى كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم، عاد الفكر الاعتزالي من جديد في الوقت الحاضر على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة، وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث.
الفكر الاعتزالي الحديث:
يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد.. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل… العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي..
وقد قَوَّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني.. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل، ثم أخذوا يلتمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية.. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل.. إلا من هذا القبيل.
وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.
وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي.. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة.. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود وغير ذلك.. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث.. إلخ.. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله.. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر.
ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث: سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية، وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة والمرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه:"أستاذ الجيل"، وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي"، وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية. ( مع احترامنا الكامل للكاتب فأن هؤلاء الاقزام من غلاه العلمانيه الغربيه فكرا ومنهجا وعقيده ولا يجوز اعتبارهم من المعتزله ( كلام من شخصى انا ) )
أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي مُنِحَ لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع، وأحل الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم.
وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحل زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة.
ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام.. مثل زكي نجيب محمود صاحب نظرية (الوضعية المنطقية) وهي فرع من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص123).
ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤها، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام : في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة"
ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي فى تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور.. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: "إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً".
وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجنهاد وتطويره، وتقويم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية.. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة –صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه- وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا، وغيرهم. ولاشك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه –اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه– فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب اتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة.
المبحث الأول
في نشأة المعتزلة
تقديم: في تعريف المعتزلة في اللغة والاصطلاح:
نعريف المعتزلة في اللغة: الاعتزال معناه: الانفصال والتنحي، والمعتزلة هم المنفصلون. هذا في اللغة
أما المعتزلة في الاصطلاح: فهم اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجاً عقلياً متطرفاً في بحث العقائد الإسلامية، وهم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري.
المطلب الأول - أصل تسمية المعتزلة:
يقول الشهرستاني:"دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعْتَزَلَنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة".
المطلب الثاني - أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها:
القسم الأول: ما أطلقه الغير عليهم:
1. المعتزلة: بمعنى المنشقين، وقد بينا سبب تسميتهم بهذا الاسم عندما تكلمنا على أصل المعتزلة.
2. الجهمية: وسبب تلقيبهم بهذا اللقب هو أنه لما كانت الجهمية سبقت المعتزلة في الظهور واشتهرت ببعض آرائها، إلا أن سبقها للمعتزلة سبق قريب، ثم لما خرجت المعتزلة كانت قد وافقت الجهمية في مسائل كثيرة، منها: نفي الرؤية والصفات، وخلق الكلام، فكأن توافق الفرقتين جعلهما كالفرقة الواحدة، وبما أن الجهمية أسبق ومسائلها أكثر وبعض مسائل المعتزلة مأخوذة منها، لذا أصبح يطلق على كل معتزلي جهمي، ولا يطلق على كل جهمي معتزلي، ولذلك أطلق أئمة الأثر لفظ الجهمية على المعتزلة، فالإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية"، والبخاري في الرد على الجهمية، ومن بعدهما إنما يعنون بالجهمية المعتزلة، لأنهم كانوا في المتأخرين أشهر بهذه المسائل من الجهمية.
وقال الإمام ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" : "لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى.. وطلبوا أهل السنة للمناظرة.. لم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية، وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، لأن جهماً أشد تعطيلاً لنفيه الأسماء والصفات…"
3. القدرية: كذلك يلقب المعتزلة بالقدرية، يقول البغدادي –وهو يسوق ما أجمعت عليه المعتزلة- : "…وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير. ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية". إلا أن المعتزلة لا يرضون بهذا الاسم ولذا يقولون: إنه أولى أن يطلق على القائلين بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
4. الثنوية والمجوسية.
5. مخانيث الخوارج.
6. الوعيدية.
7. المعطلة.
القسم الثاني: ما أطلقوه على أنفسهم:
1. المعتزلة: سبق أن ذكرنا هذا الاسم من ضمن أسمائهم التي سماهم بها غيرهم، ونورده هنا من ضمن الأسماء التي تسموا بها، وذلك أنهم لما رأوا أنه لا خلاص لهم من هذا الاسم، أخذوا يبرهنون على فضله، وأن المراد به الاعتزال عن الأقوال المحدثة والمبتدعة، وبرهنوا على ما يقولون ببعض النصوص مثل قوله تعالى: ] واهجرهم هجراً جميلاً[. وذلك لا يكون إلا بالاعتزال عنهم.
2. أهل العدل والتوحيد: يروي المقبلي أن المعتزلة كانوا يطلقون على أنفسهم أهل العدل والتوحيد والعدلية، ولذا يقول: " وتسمى المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد"
المطلب الثالث - تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم:
والرأي الأقرب للصواب –والله أعلم- قول الأكثرية، وهو أن رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء، وأنه نشأ في سنة بين 105إلى 110 للهجرة في البصرة نتيجة للمناظرة في أمر صاحب الكبيرة ثم خروج واصل برأيه المخالف لشيخه الحسن البصري، وبعد ذلك أضاف إلى رأيه في مرتكب الكبيرة آراء أخرى أصبحت فيما بعد من أصول المعتزلة، ومن ئم أخذ كل عالم من علمائهم يأتي برأي حتى تكونت هذه الفرقة.
وأما المكان الذي نشأ فيه الاعتزال، فإنه يكاد يجمع الباحثون على أنه البصرة.
المبحث الثاني
فــرق المعتزلة
الفرقة الأولى: الواصلية:
أتباع أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال مولى بني ضبة، ولد سنة 80هـ، ونشأ على الرق، وتتلمذ على الحسن البصري، ولم يفارقه إلى أن أظهر مقالته في المنزلة بين المنزلتين، وهو مؤسس فرقة الاعتزال، توفي سنة 131هـ. وهو الذي وضع الأصول الخمسة التي يرتكز عليها الاعتزال.
الفرقة الثانية: العمرويَّة:
أتباع عمرو بن عبيد بن باب، مولى بني تميم، ولد سنة 80هـ وتوفي سنة 144هـ، كان جده من سبي كابل، عاش في البصرة وعاصر واصل بن عطاء وكان ترباً له، وزوجه واصلٌ أخته، وقد أصبح شيخ المعتزلة بعد واصل، وشاركه في جميع أقواله وزاد عليه.
الفرقة الثالثة: الهذيليَّة:
أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله البصري العلاف، ولد سنة 113هـ وتوفى سنة 226، وقيل سنة 235، وقيل سنة 237 في خلافة المتوكل، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل أحد أصحاب واصل بن عطاء. وقد أطلع على الفلسفة اليونانية فجاءت أقواله متأثرة بها.
الفرقة الرابعة: النظَّامية:
أتباع أبي إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ المعروف بالنَّظَّام، سمي بهذا الاسم لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولد سنة 185هـ، وتوفي سنة 231هـ، أعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولذلك أنكر إعجاز القرآن وما رُوِىَ من معجزات الرسول e ليتوصل بذلك إلى إنكار نبوته e، ثم إنه استثقل أحكام الشريعة فأبطل الطرق الدالة عليها، ومن ثَم أبطل حجية الإجماع والقياس في الفروع، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري، وطعن في فتاوى الصحابة، وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث مع الخوارج والشيعة، والنجَّارية، وأكثر المعتزلة متفقون على تكفير النَّظَّام.
وممن قال بتكفيره من شيوخ المعتزلة أبو الهذيل والجبائي والأسكافي وجعفر بن حرب، وكتب أهل السنة في تكفيره تكاد لا تحصى.
والمعتزلة قد افترقوا إلى ما يقارب اثنتين وعشرين فرقة يجمعها آراء وهي الأصول الخمسة، وتختلف في آراء أخرى. والفرق غير السابقة هي:
الثمامية، والمعمرية، والبشرية، والهشامية، والمراديَّة، والجعفرية، والأسوارية، والأسكافية، والخابطية، والحدثية، والمويسية، والصالحية، والجاحظية، والشحَّامية، والخياطية، والجبائية، والكعبية، والبهشمية، والحمارية.
عقائد المعتزلة:
يقول محمد العبدة:
طبيعة البحث في فكر المعتزلة قد يجرنا إلى متاهات ومعميات (علم الكلام) الذي كان للمعتزلة السبق في ابتداعه أول الأمر. إلا أننا سنحاول جاهدين أن نتخطى تلك العقبة بأن نكتفي بالحديث عن أصول ذلك الفكر لدى تلك الفرقة دون الدخول في كثير من التفصيلات التي لا حاجة لنا وللقارئ إليها.
لذا سنتناول في هذا الباب من هذا البحث نشأة علم الكلام وآثاره، ذلك العلم الذي قدر له أن يسيطر لعهود متطاولة على فكر كثير من المسلمين على أنه (علم التوحيد) الذي يجب أن تجتمع عليه عقائد العامة والخاصة، والذي كانت نشأته على يد المعتزلة، وتأثر به الأشاعرة من بعد، وكان من آثاره ذلك الخلط في مفهوم التوحيد والذي أدى بدوره إلى الانحطاط والتقليد والإغراق في المباحث اللفظية، ثم بينا رأي أهل السنة في ذلك العلم وأقوال أئمة الكلام أنفسهم في مدى غنائه.
علم الكلام:
كانت الهمة الأساسية والأولى للإسلام هي تقرير التوحيد تقريراً واضحاً صريحاً لا لبس فيه، وإقراره في العقول والقلوب إقراراً يدفعها إلى العمل به، والتزام شريعته ومنهاجه في كافة نواحي الحياة، ثم نفي الشرك –المضاد لهذا التوحيد- نفياً تاماً في أي صورة من صوره، وتحت أي اسم أو شعار يختفي من وراءه.
وقد انتهج القرآن الكريم منهجاً خاصاً في تقرير تلك العقيدة وإقرارها، فاتجه إلى الفطرة الإنسانية يخاطب ما هو مركوز فيها من معانٍ تجعل الإيمان بوجود الخالق، وضرورة عبادته وحده أمراً بديهياً لا حاجة فيه لجدل أو سفسطة
لفت القرآن الأنظار إلى الآيات المبثوثة في الكون والنفس، قال تعالى ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت[ وقال تعالى ] إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، وحمل الإنسان على التفكير في خلق نفسه، وفي خلق آيات الكون، وفي إخراج النبات الحي من الأرض الميتة، ليدفعه من خلال تلك الصور إلى التفكر ثم التعقل فالتذكر. ]خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون[ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين).
ثم عرض لصفات الباري سبحانه فأوضحها بأسهل طريق وأبين لفظ، قال تعالى: ]قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وقال تعالى: ]ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
بهذه النصاعة الرائقة، وبهذا الأسلوب البين، وبهذا المنهج الهين اللين الذي لا عوج فيه ولا أمتا، قرر القرآن التوحيد، هذا المنهج الذي يتوجه إلى الفطرة السليمة يلتمس فيها مواطن البديهة العاقلة فيهديها برفق وعمق إلى الحق فتعتقده، ويزكي فيها مكنونات الوجدان والشعور فيدفعها بقوة إلى التعلق برب العالمين
وقد أحسن الرعيل الأول من صحابة رسول الله e في استيعابهم لمقررات القرآن على الطريقة التي قررها، فأحكموا المحكم منه، وردوا إليه متشابهه ليستبين لهم وجه الحق فيه، ولم يضربوا آياته بعضها ببعض ليجعلوا القرآن عضين، بل ركزوا جهودهم على القيام بحقه عملاً لا قولاً، ففتح الله بهم البلاد، وهدى بهم قلوب العباد، حتى أصبح اقتفاء آثارهم هدى، والعدول عن نهجهم ضلالة تفترى.
لكن الأمر لم يستقم على هذا المنوال، فما أن قضى جيل الصحابة –أو كاد- وما أن فتحت البلدان على المسلمين وتوسعت الرقعة التي يظلها الإسلام بظله، حتى تأثر المسلمون بما وفد عليهم من عوامل ومؤثرات وحتى اختلطوا بأبناء الأمم المفتوحة، الذين كانوا متأثرين بسابق حضاراتهم، وما تحمله ثقافاتهم ودياناتهم من أفكار ومعتقدات، بل ومناهج نظر وبحث تختلف باختلاف تلك الأمم. إلى جانب أن الكثير من أبناء تلك الأمم قد دخلوا الإسلام حاملين ذلك التراث المثقل بركام
التصورات القديمة، والمناهج الضالة فكانوا كبذور الفتنة وقد ألقيت في تربة الإسلام، فترعرع منها ما ترعرع من شقاق وتفرق، هذا إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من اتساع نطاق الترجمة والنقل من الثقافات الأخرى خاصة اليونانية في مجال الفلسفة والمنطق.
كل تلك العوامل أدت إلى نشأة ما عرف بعلم "الكلام" أو "علم التوحيد" كما أطلقوا عليه.
قد ارتبط علم الكلام هذا منذ أول نشأته بظهور فرقة المعتزلة أو ظاهرة "الاعتزال" في الواقع الإسلامي، وإن تسرب بعد ذلك إلى طوائف أخرى من الفرق المبتدعة كالروافض والمرجئة، بل شاع في أوساط كثير من العلماء وكتاباتهم منذ عهد أبي الحسن الأشعري ومن انتسب إليه من الأشاعرة الذين وإن خالفوا المعتزلة في العديد من القضايا، إلا أنهم وافقوهم في انتهاج منهج الكلام في صياغة العقيدة، وقد سمي من انتمى لذلك النهج "المتكلمين"، فكان هناك متكلمو المعتزلة، ومتكلمو الأشاعرة، ومتكلمو الروافض …
تعريف علم الكلام وأمثلة منه:
تعريف هذا العلم عند أهله –على اختلافهم في تعريفه- أنه: العلم بالعقائد الدينية عن طريق الأدلة اليقينية (أي العقلية في اصطلاحهم).
لا بأس هنا أن نعرض مثالين يوضحان طريقة تناولهم لمسائل العقيدة الإسلامية، والمنهج الذي انتهجوه لإثباتها:
أولاً: إثبات وجود الله سبحانه:
أراد علماء الكلام أن يثبتوا وجود الله سبحانه، ثم إثبات النبوات بعد ذلك، حتى يمكن تلقي الأمور الخبرية عن النبوة ويكون ذلك التلقي مبنياً على يقين عقلي، فاستدلوا بدليلين مشهورين:
أولهما: دليل الحدوث، وملخصه: أن الأجسام الموجودة في العالم تتكون من أجزاء، وهذه الأجسام يمكن قسمتها إلى أجزاء.. وهكذا، ولكن هذا التقسيم لا يستمر إلى مالا نهاية، بل يجب الوقوف عند جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي لا يتجزأ هو الجوهر الفرد، وكل الجواهر تتعرض لحالات مختلفة كالحركة والسكون.. وهذه الأحوال يطلقون عليها الأعراض، وهي حادثة لأنها متغيرة، وما دامت الجواهر لا تنفصل عن الأعراض، والأعراض حادثة، فالجواهر إذن حادثة، والأجسام حادثة، والعالم حادث، ومن ثَم فلابد له من محدث وهو الله سبحانه.
ثانيهما: دليل الممكن والواجب، ويتلخص هذا الدليل في أن كل ما يوجد في العالم كان من الممكن أن يوجد على نحو مخالف لما هو عليه، ومن الممكن أن يخلق الله عالماً أفضل من هذا العالم الحالي، بل من الممكن في هذا العالم أن يصعد الحجر إلى أعلى وأن يهبط اللهب إلى أسفل، وإذا كان الأمر كذلك فالعالم حادث، ولابد له من محدث، وهو الله سبحانه .
ثانياً: إثبات اليوم الآخر:
نهج علماء الكلام لإثبات وجود اليوم الآخر نهجاً جدلياً بعيداً عن العقل المنطقي السليم، فقالوا إن وجود اليوم الآخر ممكن، لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال، فما المانع إذن أن يوجد يوم آخر عقلاً؟.
ولا شك أن هذه الطريقة الجدلية لا تقف أمام مجادل جَلْد، إذ أنه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليهم – أن إمكان الوقوع لا يعني بالضرورة تحقق الوقوع، والممكنات كثيرة لا تدخل تحت حصر ولكن الموجودات لا تمثل إلا جزءاً منها، فما يمنع –حسب قولهم- أن يكون اليوم الآخر من هذا الممكن الذي لا يتحقق؟.
مآخذ أهل السنة على علم الكلام ومنهجه:
أولاً: مخالفة منهج علم الكلام للمنهج القرآني في عرض العقيدة:
ذكرنا في بداية هذا الفصل لمحة عن نهج القرآن في مخاطبة الناس، وأنه يخاطب الفطرة والعقل والقلب والشعور معاً، ونزيد الأمر إيضاحاً ليتبين لنا أن علم الكلام قد انتهج الطريقة العويصة الباردة التي لا هي طريقة قرآنية شرعية، ولا هي طريقة عقلية تصمد أمام مقررات العقل القوي الحجة، السليم الاستنباط في كثير من الأحيان.
ولنعد إلى المثال السابق عن إثبات اليوم الآخر لنرى الفرق واضحاً بينه وبين المنهج القرآني.
فالقرآن قد أثبت وجود اليوم الآخر بأدلة سهلة ميسرة، بعكس علم الكلام الذي حاول إثباته أولاً كقضية ذهنية، بأن قرر عدم استحالة ذلك، ثم انتقل إلى تقرير وجوده في الحقيقة بناءً على تلك المقررة الذهنية. أما القرآن فقد نحا منحى عقلياً واقعياً سهلاً ليصل إلى النتيجة المؤكدة.
فالإنسان يعلم إمكان وجود الشيء، تارة لعلمه بوجود نظيره أو ما يشبهه، وتارة بعلمه بوجود ما هو أكبر وأولى من هذا الشيء.
فإن ثبت إمكان وجود الشيء بهذين المسلكين، فلابد من بيان قدرة الله سبحانه على تحقيق وجوده بالفعل، فإن ثبت ذلك الأمر، كان لابد من بيان الفائدة التي تترتب على إيجاده بالفعل، إذ أن إمكان تحقق الفعل وقدرة الله سبحانه على إيجاده، وقد لا تعني إيجاده بالضرورة، بل تبقى الفائدة والغاية والمصلحة المتحققة من هذا الأمر، حسب حكمة الله سبحانه في إيجاده له.
وقد كان ذلك تماماً منهج القرآن في إثبات ذلك الأمر.
فقد قال تعالى: ]وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، وقال تعالى: أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد، فأثبت إمكان وجود اليوم الآخر لوقوع نظيره من الخلق الأول، بل إنه أهون عليه سبحانه في ذلك.
وقال تعالى: ] أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادرٍ على أن يخلقَ مثلهم بلى وهو الخَلاَّق العليم، فأوضح قدرة الله سبحانه على ذلك. وقال تعالى: لتُجزى كلُ نفس بما تسعى فوجود اليوم الآخر الذي قرره القرآن فعلاً، هو لحكمة إلهية عالية يتحقق منها العدل الإلهي، ويتقرر بها مبدأ الثواب والعقاب.
وقد استعمل القرآن الكريم نفس الأسلوب في تنزيه الله سبحانه عن الشرك والأبناء، فقال: ويجعلونَ للهِ البناتِ سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهُه مسوداً وهو كَظيم، وقال تعالى: ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانُكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتِكم أنفسَكم، فهو يقرر سبحانه أنه إذا كنتم تنزهون أنفسكم عن الأمور الناقصة وتكرهون البنات وتحبون الذكور، فكيف تجعلونها له من دونكم؟.
وإن كنتم لا تحبون أن يكون مملوككم شريكاً لكم ونظيراً فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوق لي ومملوك لي شريكاً يُدعى ويُعبد مِن دوني؟
وقد أشار سيد قطب رحمه الله تعالى في تعليقه على قوله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه، إلى أن المنهج القرآني –عكس منهج المتكلمين- لا يتحدث بطريقة جافة باردة في الموضوعات التي تمس المشاعر، والتي تحتاج إلى دفعة إيمانية نفسية قوية لتثبت في القلوب ثم العقول، كما فعل الله سبحانه حين أراد أن يقر في نفس الذي مر على القرية أن البعث أمر ميسور مقدور لله سبحانه، فإنه أماته هو نفسه ثم أحياه وأشهده بعث حماره رأي العين، دون جدل أو سفسطة
إذن فطريقة علم الكلام مبناها على "استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذاتهم بلزوم مسلماتهم، والتنقير والسؤال، وتوجيه إشكال ثم اشتغاله بحله، والمنهج القرآني يواجه الفطرة بشمولها ويخاطب الكينونة البشرية بكل ما تحتويه دفعة واحدة، فهو كالماء الذي ينتفع به الطفل الرضيع والرجل القوي، لذلك فقد اتبع السلف هذا المنهج في عرض العقيدة فقد "ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم اتبعه بكتاب الإيمان، الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي".
واتباع هذا المنهج حكمة وهداية، واتباع منهج المتكلمين فيه خبط وخلط ووعورة متكلفة.
ثانياً: إغفال توحيد العبادة الذي هو هدف الرسالات:
شاع إطلاق اسم التوحيد على علم الكلام وذلك نظراً لموضوعه الذي يبحث فى ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولما جرى بين المتكلمين وبين أصحاب الاعتقادات الباطلة كالمجوس والصابئة واليهود والنصارى من مجادلات ومناقشات حول ذات الله وصفاته والقضاء والقدر… بذلك الأسلوب اليوناني الذي أشرنا إليه من قبل، وقد حرص أرباب هذا العلم على إثبات تلك التسمية لشرفها من جهة، ولظنهم أن توحيد الربوبية هو المطلوب الأول للرسل والحقيقة أن هذا الإطلاق فيه شيء من التمويه قد يكون غير مقصود، إلا أنه قد انخدع به طلبة العلم وصاروا يتداولونه، وكأنه من البديهيات المسلم بها.
وكان من جراء ذلك أن ارتبط معنى التوحيد في الأذهان بتوحيد الربوبية بشكل عام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون: هو واحد في ذاته وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع".
هكذا جهد المتكلمون أعظم الجهد لإثبات ما أقر به المشركون، ومن ثم كانت الفجوة واسعة بين مفهوم التوحيد في العقيدة الإسلامبة ومفهوم التوحيد الكلامي عند أربابه، وهذا أدى بدوره إلى ذبول مفهوم الطاعة والاتباع، حتى اقتصر الأمر على مجرد أداء الشعائر، فلما جاء دور إقصاء الشريعة عن الحياة الإسلامية والتحاكم إلى غير شرع الله هان الخطب على الناس، وسهل الأمر على أدعياء العلم أن يغضوا الطرف عن ذلك الأمر الجلل، طالما أن توحيد الربوبية قائم في نفس الحاكم والمحكوم، وأن كتب التوحيد تتداولها الأيدي، ويتدارسها الدارسون. وكان هذا –في نظرنا- من أوخم نتائج الانحراف عن معاني التوحيد الحقيقي، وأسوئها أثراً في الحياة الإسلامية.
ثالثاً: وضع أصول للدين غير ما بيَّنه الله ورسوله:
وضع علماء الكلام أصولاً هي ما قرروه من مشكلات وحلها، ومقدماتها ولوازمها، وسموا ذلك "أصول الدين" واشترطوا على المسلم معرفتها ليصح إسلامه، فعليه أن يعرف أدلة حدوث العالم، وأدلة التمانع والجوهر والعَرَض، وقواعد الحركة والسكون.. إلى غير ذلك مما قرروه في كلامهم، وجعلها بعضهم أول الواجبات على المكلَّف وهي المعرفة وليس أول الواجبات النطق بالشهادتين: "وقد وضع لهم القاضي أبو بكر الباقلاني المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب إعتقادها".
وقد أوضح شارح العقيدة "الجوهرة" مذاهب الناس في أول الواجبات على المسلم فقال: "وأهم الأقوال في أول الواجبات: أولاً: ما قاله الأشعري إمام هذا الفن: المعرفة.
ثانياً: ما قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني : أنه النظر الموصل للمعرفة.
ثالثاً: ما قاله القاضي الباقلاني: أنه أول نظر، أي المقدمة الأولى منه.
رابعاً: ما قاله إمام الحرمين: أنه القصد إلى النظر، أي تفريغ القلب عن الشواغل.
خامساً: ما قاله بعضهم: من أنه التقليد.
سادساً: أنه النطق بالشهادتين"!!. ثم عقب بتصحيح الآراء الثلاثة فقال:
"والأصح أنه أول واجب غاية: المعرفة، وأول واجب وسيلة: تربية النظر، وأول واجب وسيلة بعيدة: القصد إلى النظر، وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة"
ولا ريب أن ما تقدم يخالف ما عُلم من الدين بالضرورة من أنه أول واجبات المسلم هي النطق بالشهادتين واعتقاد معناهما من توحيد الله وعبادته وحده وضرورة إتباع الرسالة، وأما المعرفة الكلامية، والنظر الموصل إليها وأمثال ذلك فهو مما لا يفترض على المسلم لا أول واجب ولا آخره، وإنما التزموا ذلك لما أطلقوا على مقدماتهم اسم "أصول الدين"، ومعلوم أن أصول الدين يجب على الجميع أن يعرفها وأن يقر بها ليصح إسلامه وأصول الدين التي هذا شأنها مع المسلم، قد بينها الله ورسوله أوفى بيان ولم يدع للمتكلمين مهمة الاستدراك عليه فيها.
"ولهذا قد اعترف بهذا من أهل الكلام كالأشاعرة وغيرهم، بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها طريقة باطلة"(
رابعاً: تعظيم دور العقل وجعله حاكماً لا محكوماً:
ذلك أن أرباب الكلام قد عظموا العقل وارتضوا أحكامه فيما لا يصلح أن يكون فيه حكماً، فقد كانوا يطرحون المسألة، ثم يعرضونها على العقل –عقل الواحد منهم طبعاً- فيستجمع لها الأدلة كما يتراءى له لإثباتها على وجه من الوجوه، وحين يصل إلى نتيجة وينتهي إلى قرار يعمد إلى الأدلة السمعية فيؤول منها ما لا يوافق نتيجته –إن كانت من آيات الله- أو يرد الحديث بدعوى تناقضه مع العقل أو أنه مبني على الظن.
يتضح مذهبهم هذا في موقفهم من خبر الواحد مثلاً، فإنهم أنكروا حجيته مطلقاً في الاعتقاد، وأما في باب الأعمال فقد جعلوا من شروط قبوله أن يكون في متن الخبر ما يجوزه العقل ومالم يحتمل تأويلاً صحيحاً فخبره مردود لاستحالة هذا في العقول، ولهم في رد الأحاديث بهذا المنطق فضائح يرجع إليها في مثل كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة.
وقد وافق بعض كبار الأشاعرة المعتزلة في نسجهم على هذا المنوال، فقالوا إن اليقين لا يثبت إلا بالعقل، وأن المعتمد هو العقل عند التضارب.
وإنما أُتى هؤلاء من ظنهم أنه قد يكون هناك تعارض بين دليل عقلي قطعي ودليل نقلي صحيح، ومن ظنهم أن الدليل النقلي لا يتضمن الدليل العقلي، مع أن القرآن مليء بالأمثال وهي أقيسة عقلية، ثم كيف تتعارض نصوص الكتاب والسنة مع العقل والكل من عند الله سبحانه؟!.
خامساً: اتخاذ الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدين:
ذلك أن منهج علم الكلام أصلاً بني على: "إن قالوا ..قلنا" أي طريقة الجدل والمراء والخصومة، فهو لازم مذهبهم، عليه بنيت أصولهم، كما رأينا من قبل في تعريف الغزالي له من أنه "إلزام للخصم بلوازم مستنتجة من مقدماته"، وكم أدت بهم هذه الطريقة إلى التزام ما لا يلزم، والانتهاء إلى نتائج قد لا يرضونها أصلاً، وإن أقروا بها خصومة وجدلاً وإشفاقاً من الفرار والتراجع أمام الخصم.
سادساً: النظر إلى الشريعة نظر النقص والافتقار:
ذلك أن متكلمة المعتزلة قد اعتقدوا في الشريعة التضارب والتخالف، فقد يثبت المعنى الذي يتوهمون في عقولهم، ثم يأتي الحديث الصحيح معارضاً لذلك المعنى، فتجدهم يفرون منه فرار المجذوم من الأسد، ويودون لو أن الحديث لم يرد أصلاً، وإن لم يجدوا مندوحة من قبوله لجأوا إلي تأويله أو رده بحجة أنه حديث آحاد مثلاً، وقل مثل ذلك في الآيات القرآنية التي تثبت عكس مقرراتهم.
وإنكارهم للأحاديث الصحيحة الثابتة وردهم لها بدعوى التناقض أكثر من أن يحصى، وقد جمع ابن قتيبة الكثير منها في كتابه "تأويل مختلف الحديث" وأوضح وجه الدلالة فيه، ونجتزئ بإيراد مثالين على ذلك.
1. قالوا حديث يدفعه النظر وحجة العقل رويتم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي e قال: "أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم، ورحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد، ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت". قالوا هذا طعن على إبراهيم، وطعن على لوط، وطعن على نفسه عليهم السلام.
قال أبو محمد (ابن قتيبة): فأما قوله: "أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام" فإنه لما نزل عليه ]وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبيقال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله e: أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم، تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه، يريد: إنا لم نشك، ونحن دونه فكيف شك هو ..."
2. قالوا حديث في التشبيه يكذب القرآن وحجة العقل! رويتم –يعنون أهل السنة- "أن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله…" فإن كنتم أردتم بالأصابع هنا النعم، وكان الحديث صحيحاً فهو مذهب، وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها فإن ذلك يستحيل لأن الله تعالى لا يوصف بالأعضاء.
قال أبو محمد: ونحن نقول أن الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث.. ولا يجوز أن تكون الإصبع هنا نعمة لقوله في الحديث الآخر "يحمل الأرض على إصبع، وكذا على إصبعين.." ولا نقول إصبع كأصابعنا ولا يد كأيدينا ولا قبضة كقبضتنا لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئاً منا"
فالدارس للشريعة، والمتأمل لمسائلها وحقائقها عليه "أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عَماية. كيف وقد ثبت في الشرع كمالها وتمامها؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطريق..وأن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأحاديث النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيع واحد، فإن أداه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلم من غير اعتراض
وبعـد، فإننا إن ذهبنا نستقصي ما جناه علم الكلام على الحياة الإسلامية من جرائر لما انتهى بحثنا إلى ما نريده من إيجاز واختصار، وإنما بقى أن ننقل نماذج من تقريرهم لمسائلهم، وتعقيدهم لمقدماتهم ونتائجها، حتى يستشعر القارئ صحة ما ذهبنا إليه من قلة غناء مثل هذا العلم، ويتنبه بنفسه إلى ما فيه من غموض والتواءات قد تشكل حتى على أصحابها.
انظر إلى كلام متكلمي الأشاعرة عن"القدرة الإلهية" يقول صاحب شرح جوهرة التوحيد: "وللقدرة تعلقات سبع أشار إلى واحد منها وهو الصلوحي القديم. .
ومعنى التعلق الصلوحي: صلاحيتها إلى الأزل للإيجاد والإعدام، والتعلقات الستة الباقية هي:
تعلق قبضة: وهو تعلقها بعدمنا فيما لا يزال قبل وجودنا.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل بعد العدم السابق.
تعلق قبضة: وهو تعلقها باستمرار الوجود بعد العدم.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإعدامنا بالفعل بعد الوجود.
تعلق قبضة: وهو تعلق باستمرار العدم بعد الوجود.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل حين البعث يوم القيامة.
والتعلق هو: طلب الصفة أمراً زائداً على قيامها بالذات"
ثم يزيد الدسوقي الأمر شرحاً وبياناً ! ! فيقول: " إن القدرة تتعلق بوجود الممكن اتفاقا تعلق تأثير، وكذا تتعلق بعدم الطارئ تعلق تأثير على المعتمد"!
ثم انظر إلى قولهم في تعلقات السمع والبصر:
"وللسمع والبصر تعلقات ثلاثة:
أولاً: خلوصي قديم، وهو صلاحيتها في الأزل لاكتشاف ذرات الكائنات وصفاتها بهما فيما لايزال!.
ثانياً: تنجيزي قديم: وهو انكشاف الذات العليا وصفاتها بهما انكشافاً يغاير انكشاف العلم، إذ لكل صفة حقيقة تخالف حقيقة الأخرى، غير أنهما لا يتعلقان بالأمور العدمية "كالسلوب" والأمور الثبوتية "كالأحوال".
ثالثاً: تنجيزي حادث: وهو انكشاف الممكنات بعد وجودهما بهما"
فانظر إلى هذا التعقيد والتخليط، وقارن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الكمال والجلال، مثل ما قال رسول الله e حين رفع الناس أصواتهم بالدعاء: (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب) هكذا دون تعلقات تنجيزية أو صلوحية!.
المراحل التي مر بها علم الكلام:
مر علم الكلام بأربع مراحل مختلفة تغيرت فيها موضوعات مباحثه، نوجزها فيما يلي:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة متقدمي المتكلمين، كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وخالد بن صفوان، ثم أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام
وقد تميزت هذه المرحلة بالتأثر بالمصطلحات اليونانية، وخاصة عند المتأخرين منهم كالعلاف، حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية، فترجم كتاب "الطبيعة" "وما بعد الطبيعة" لأرسطو، وقد ترجمه إسحاق الكندي، وقد كانت المباحث الكلامية في هذه المرحلة حسب موضوعاتها التي يتفق الكلام فيها دون وضع قواعد صريحة لهذا العلم، كما خلت من الاستعانة بعلم المنطق الأرسطي.
المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي دخل فيها الأشاعرة معترك "الكلام" في مقابل المعتزلة، ويمثلها من الأشاعرة أبو الحسن الأشعري مؤسس المذهب، وأبو بكر الباقلاني ، وهو الذي قام بوضع قواعد علم الكلام ومقدماته التي يحتاج إليها الدارس مثل إثبات الجوهر الفرد، وأن لا يقوم العرض بالعرض…إلخ.
ومن بعده إمام الحرمين أبي المعالي الجويني الذي صنف على هذه الطريقة كتابه "الشامل" ثم مختصره "الإرشاد" . ومن المعتزلة أبو هاشم الجبائي ومن بعده أبو عبد الله البصري، ثم القاضي عبد الجبار
المرحلة الثالثة: ويمثلها أبو حامد الغزالي والفخر الرازي حيث تتميز هذه المرحلة بمناقشة كلام الفلاسفة، وإدخال ذلك في "علم الكلام". يقول صاحب أبجد العلوم:" ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في متن الكلام للمتقدمين، فخالفوا الكثير من البراهين التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات". كما تتميز باستعمال المنطق الأرسطي في مقدمات علم الكلام ودراسة أدلته وبراهينه.
المرحلة الرابعة: ومنها البيضاوي صاحب "الطوالع" ومن بعده، وتتميز بالخلط بين مذاهب الفلسفة والكلام، واشتباه الأمر فيهما على الكاتب والقارئ جميعاً، ثم يأتي أصحاب التقليد المحض من أتباع الأشاعرة.
وقد ظهر اتجاه لدى كبار أئمة الكلام من الأشاعرة يدعو إلى التحذير من إشاعة علم الكلام بين العامة، وزعموا أنه يجب قصر ذلك على الخاصة أو من رام الاجتهاد والعلو في الدين، وما نرى ذلك إلا رد فعل لما رأوه من أثر انتشار هذه المباحث على عقيدة الناس، واستقبالهم لعقائد الإيمان ومدى تأثرهم بالقرآن منهجاً وأسلوباً، وما شاع من اختلاط في الأفهام واضطراب في المفاهيم، ومن هؤلاء الأئمة أبو المعالي الجويني في كتابه "الغياثي" حيث صرح بأن من أراد الارتقاء عن مرتبة العوام فله أن ينظر في كتب الكلام التي وضعها، أما العامة فعلى إمام المسلمين أن يجمعهم على عقيدة السلف، وينهاهم عن الخوض في المعميات وتكلف وارد المشتبهات. وقد تابعه تلميذه الغزالي في هذا الرأي في مصنفه "إلجام العوام عن علم الكلام".
ذم السلف الصالح لعلم الكلام:
وقد ذم سلف الأمة علم الكلام، ونهوا عن الخوض فيه أشد النهي، مما يؤكد نفورهم منه، وعدم إجازتهم له وأنه لا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً.
قال الشافعي رحمه الله: "لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه –ما عدا الشرك- خير له من أن ينظر في الكلام"، وقال: "حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يصلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة"
وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".
وعن أبي يوسف: "من طلب المال بالكيمياء فقد أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق"([60]).
ونقل مثل ذلك الاعتقاد علي بن المديني وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وإسحاق بن إبراهيم، والقاسم بن سلام، والليث بن سعد، ومالك، وسفيان الثوري وغيرهم من علماء الأمة الأجلاء، وكلهم ينهون عن النظر في كتب المتكلمين، ويأمرون بترك مجالستهم وهجرانهم .
رجوع طوائف من المتكلمين إلى الحق:
وقد رجع العديد من أئمة المتكلمين إلى الحق من عقيدة السلف الصالح في إثبات الصفات وغير ذلك، ونهوا عما أحدثوه من قبل من كلام في دقائق العقيدة، وأعلنوا التوبة منه والرجوع عنه.
قال الفخر الرازي –في وصيته التي وردت في كتاب: عيون الأنباء- : "ولقد اخترت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمتنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات.. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله به.. والذي لم يكن كذلك أقول ديني متابعة محمد سيّد المرسلين".
وكان أبو المعالي الجويني يقول: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به".
أما أبو حامد الغزالي فإنه لم يجد له مغنى في [الكلام]، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع الصحيحين، فيقال أنه مات وصحيح البخاري على صدره، ولكنه توفي قبل أن يظهر أثر ذلك في كتبه.
وأما مؤسس المذهب: أبو الحسن الأشعري، فالغريب أن المنتسبين إليه من المقلدة لا يكادون يلقون بالاً إلى حقيقة أنه رجع بنفسه عن منهج الكلام وعن اعتقادات الأشاعرة، وأقر بانتسابه إلى مذهب الحق الذي يمثله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في عصره وصنف كتابه الأخير على هذا المذهب وهو "الإبانة عن أصول الديانة".
فكل هؤلاء الأئمة هم من أجلّ أئمة المتكلمين من الأشاعرة، قد ذكروا طريقتهم السابقة، ولو أنها كانت الحق لما زيفوها، وأبانوا عوارها ونقصها، وجعلوا في خاتمة عمرهم يتبرؤون منها… فياليت المحْدَثين من المنتسبين لفكرهم والمقلدين لهم يعتبرون بهذه الحال.
أما عن متكلمي المعتزلة، فإنه لم يعرف عن أحدهم أنه تاب وأناب، وما هذا إلا لإيغالهم في الباطل، وعدم توجه نياتهم لطلب الحق أصلاً، وأنهم رؤوس البدعة، والمنشؤون لها.
الفصــل الثاني
عقائد المعتزلة
تكاد فرق المعتزلة وكبراؤهم يجمعون على أن للاعتزال أصول خمسة تدور حول عقائدهم وقضاياهم، وقد تسلسلت من خلال كل أصل منها عدة مسائل، فكان لابد لهم –وقد أخذوا من عقولهم هادياً- أن يسيروا وراء تلك المسائل، ويلتزموا بالنتائج التي تؤدي إليها.
ومن هذه الأصول، أو على رأس هذه الأصول: نفي الصفات (أو التوحيد كما أطلقوا عليه)، فمن خلال استدلالهم العقلي على وجود الله سبحانه التزموا بنفي الصفات، وأداهم ذلك إلى إثبات خلق القرآن، وإلى عدم رؤية المؤمنين لله سبحانه يوم القيامة، وإلى نفي استواء الله على عرشه من فوق سماواته كما أخبر في كتابه الكريم، فناقضوا بذلك محض العقيدة الإسلامية التي ثبتت بنصوص الكتاب والسنة، ونقلها صحابة رسول الله e ومن بعدهم التابعون وتابعوهم من سلف هذه الأمة، أهل القرون الثلاثة الفضلى.
ومن هذه الأصول: نفي القـدر (أو العـدل كما أسموه) والذي نشأ من قياسهم الفاسد لعدل الله تعالى على عدل البشر، فأداهم ذلك إلى القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وليست من خلق الله، بل ولا يقدر على خلقها عند بعضهم! إذ هو سبحانه لا يقدر على الظلم ولا يريده لأنه لا يحبه ولا يرضاه، ومن ثَم أوجبوا على الله تعالى أن يفعل الصالح للعباد!! كذلك فالعباد وحدهم قادرون على إدراك الخير والشر والحسن والقبح بالعقل دون الشرع ، إذ في الأشياء ذاتها قبح وحسن ذاتي، ومن ثم فهم محاسبون ومعاقبون على أفعالهم، ورد الشرع بذلك أم لا!.
ثم خلطوا في مسائل أخرى كالتولد والاستطاعة، وكثيراً من تلك الأمور التي استلزمتها مقدماتهم العقلية التي ساروا وراءها حتى النهاية فهلكوا وأهلكوا.
وكذلك في سائر أصولهم الخمسة التي هي المنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وسنحاول في الصفحات التالية أن نفصل ما أوجزناه من أصولهم ونتتبع ما ألزموا به أنفسهم خطوة خطوة حتى اكتملت لهم هذه العقائد.
الأصــول الخمســة
الأصل الأول: التوحيد عند المعتزلة
تمهيـد:
هذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة الخمسة، وهو عندهم يدور حول ما يثبت لله وما ينفى عنه من الصفات، ويدل على ذلك تعريفهم له.
يقول القاضي عبد الجبار –وهو يعرف التوحيد لغة واصطلاحاً- : "والأصل فيه أن التوحيد في أصل اللغة عبارة عما يصير به الشيء واحداً، كما أن التحريك عبارة عما به يصير به الشيء متحركاً، و
- فاروقمشرف منتدى الأخبار
- عدد الرسائل : 7766
العمر : 53
الأوسمة :
البلد :
نقاط : 16819
السٌّمعَة : 53
تاريخ التسجيل : 09/08/2008
رد: المعتزله للدكتور مصطفى محمد
الجمعة 14 يناير 2011, 11:28
الجبريون الجدد يعتقدون أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.والقصور العقلي قد يوصل إلى مسارت ظلة ومظلة كفرية ...
فإذا حكمنا عقولنا القاصرة المتأثرة بالفكر الغربي عطلنا أحكاما شرعية ذات أهمية بالغة للمجتمع المسلم ،وقد نرجع باللائمة على الرسول الكريم والصحابة الكرام بغية إزالة تهمة البربرية التي يوصف بها عادة المطبق للشريعة الاسلامية ،كالرجم للزاني المحصن و الجلد لشارب الخمر ، وقطع اليد للسارق والسارقة ...
مثل ما فعل العلمانيون الذين تشربوا الفكر الغربي حتى الثمالة فمالوا كل الميل ،ورفعوا الحرج عن فكر السلف ،ونعتوا أصحابه بالمتخلفين ،وأصحاب الكتب الصفراء ،بل أشهروا سيوف الحرب والحرف في وجه علماء المتمسكين بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته....
من هذه المعاول الهدامة البارزة في العالم العربي في عصر الانحطاط سعد زغلول، قاسم آمين ،وطه حسين المشكك في الشعر الجاهلي وغيرهم من الأدباء المعاصرين الذي استقوا فكرهم من مستنقعات الغرب الكافر بالغيبيات الذي يفسركل الأمور تفسيرا ماديا ،وإذا أمرما كالجنة والناروالجن ووجود الله والقدر خيره وشره والقرآن الكريم ،إذا لم يقبل هذا النوع من التفسيرالمادي ولم تفت فيه المخابر العالمية فهو من نسج الخيال وشطحات الفكر الانساني القديم ...
ويعتقدون أن الديمقراطية دين جديد صالح لكل مكان وزمان ،فلذا تخلوا عن الجهاد ونشر العقيدة الاسلامية ،وركنوا إلى ما تجود به أطروحات العدو ،فانخرطوا في المنتديات الفكرية العالمية ،ورفعوا شعارات الماسونية في كل الاقطار مدافعين عنها كل حسب قدرته ومن موقعه ،رافعين راية محاربة الجهاديين الواصفين إياهم بالإرهابيين ...فحققوا في ظرف قصير ما لم يحققه المستعمرون خلال قرون خلت ...فأغلقت الكتاتيب والمدارس القرآنية ،وصادروا أموال الجمعيات الخيرية التي تخدم المجتمع المدني في كل بلاد العرب والمسلمين وضيقوا الخناق عليها في مجال عملها بل أنتجوا إشهارات تبث ليل نهار في تلفزيونات عربية وغربية ،تحرض المجتمع المدني في كل البلاد وخصوصا العربية الاسلامية أن يبتعدوا عنهم ويهجروهم ولا يتعاملوا معهم ....زيادة على ذلك تعاونت الحكومات العربية في تضييق والزج بأصحابه والعاملين في هذا الحقل في غياهيب السجون إدعاء أنهم يمدون يد العون للإرهاب تارة ، أو يحملون الفكر الارهابي تارة أخرى...ثم أطلقوا العنان لعلماء البلاط والمثقفين المدجنين المتخرجين من المخابر الغربية أن ينشروا الفكر الجبري القاضي بالاستسلام لمشيئة الدمقراطيين والعلمانيين الرافعين لراية السلم العالمي .بل لم يتوانوا جميع مثقفي الغرب والعرب باسم الديمقراطية في تغيير مناهج التعليم في كل البلاد العربية والاسلامية حتى نربي جيلا مدجنا يقبل الاستعمار الجديد والثقافات الوادفة الناسخة لفكر أجداده والماحية لعاداته ..وباسم هذا الفكر قسم العر اق إلى طوائف ،وجز السودان من جنوبه المالك لخيراته الأساسية كالبترول و مياه النيل آملين في التحكم في مصائر الشعوب في المستقبل القريب و البعيد..والتدخل السافر في شؤون لبنان قصد ضرب ذلك الانسجام الذي الدين الاسلامي منذ زمن بعيد في التاريخ ،الغريب العرب يصفقون ويجندون الجنود والعسكر في تقويض كل فكر مناد بالثورة ضد أطماع الغرب بل يخمدون كل الثورات المحرر لفرد العربي من الهيمنة الغربية بل لا تحقق هذه المشاريع إلاعلى أيدي عملاء حكام البلاد العربية الاسلامية من مبارك إلى العبادلة اليمني والمكي والأردني و السادس وزين العابثين وغير ذلك ..والشعوب لاهية ،لاهثة وراء الدفاع والمطالبة بالحقوق المدنية والسياسة ..تعيش الفقر والجهل والأمية في ظل بحبوحة الأغنياء الأغبياء ...
فإذا حكمنا عقولنا القاصرة المتأثرة بالفكر الغربي عطلنا أحكاما شرعية ذات أهمية بالغة للمجتمع المسلم ،وقد نرجع باللائمة على الرسول الكريم والصحابة الكرام بغية إزالة تهمة البربرية التي يوصف بها عادة المطبق للشريعة الاسلامية ،كالرجم للزاني المحصن و الجلد لشارب الخمر ، وقطع اليد للسارق والسارقة ...
مثل ما فعل العلمانيون الذين تشربوا الفكر الغربي حتى الثمالة فمالوا كل الميل ،ورفعوا الحرج عن فكر السلف ،ونعتوا أصحابه بالمتخلفين ،وأصحاب الكتب الصفراء ،بل أشهروا سيوف الحرب والحرف في وجه علماء المتمسكين بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته....
من هذه المعاول الهدامة البارزة في العالم العربي في عصر الانحطاط سعد زغلول، قاسم آمين ،وطه حسين المشكك في الشعر الجاهلي وغيرهم من الأدباء المعاصرين الذي استقوا فكرهم من مستنقعات الغرب الكافر بالغيبيات الذي يفسركل الأمور تفسيرا ماديا ،وإذا أمرما كالجنة والناروالجن ووجود الله والقدر خيره وشره والقرآن الكريم ،إذا لم يقبل هذا النوع من التفسيرالمادي ولم تفت فيه المخابر العالمية فهو من نسج الخيال وشطحات الفكر الانساني القديم ...
ويعتقدون أن الديمقراطية دين جديد صالح لكل مكان وزمان ،فلذا تخلوا عن الجهاد ونشر العقيدة الاسلامية ،وركنوا إلى ما تجود به أطروحات العدو ،فانخرطوا في المنتديات الفكرية العالمية ،ورفعوا شعارات الماسونية في كل الاقطار مدافعين عنها كل حسب قدرته ومن موقعه ،رافعين راية محاربة الجهاديين الواصفين إياهم بالإرهابيين ...فحققوا في ظرف قصير ما لم يحققه المستعمرون خلال قرون خلت ...فأغلقت الكتاتيب والمدارس القرآنية ،وصادروا أموال الجمعيات الخيرية التي تخدم المجتمع المدني في كل بلاد العرب والمسلمين وضيقوا الخناق عليها في مجال عملها بل أنتجوا إشهارات تبث ليل نهار في تلفزيونات عربية وغربية ،تحرض المجتمع المدني في كل البلاد وخصوصا العربية الاسلامية أن يبتعدوا عنهم ويهجروهم ولا يتعاملوا معهم ....زيادة على ذلك تعاونت الحكومات العربية في تضييق والزج بأصحابه والعاملين في هذا الحقل في غياهيب السجون إدعاء أنهم يمدون يد العون للإرهاب تارة ، أو يحملون الفكر الارهابي تارة أخرى...ثم أطلقوا العنان لعلماء البلاط والمثقفين المدجنين المتخرجين من المخابر الغربية أن ينشروا الفكر الجبري القاضي بالاستسلام لمشيئة الدمقراطيين والعلمانيين الرافعين لراية السلم العالمي .بل لم يتوانوا جميع مثقفي الغرب والعرب باسم الديمقراطية في تغيير مناهج التعليم في كل البلاد العربية والاسلامية حتى نربي جيلا مدجنا يقبل الاستعمار الجديد والثقافات الوادفة الناسخة لفكر أجداده والماحية لعاداته ..وباسم هذا الفكر قسم العر اق إلى طوائف ،وجز السودان من جنوبه المالك لخيراته الأساسية كالبترول و مياه النيل آملين في التحكم في مصائر الشعوب في المستقبل القريب و البعيد..والتدخل السافر في شؤون لبنان قصد ضرب ذلك الانسجام الذي الدين الاسلامي منذ زمن بعيد في التاريخ ،الغريب العرب يصفقون ويجندون الجنود والعسكر في تقويض كل فكر مناد بالثورة ضد أطماع الغرب بل يخمدون كل الثورات المحرر لفرد العربي من الهيمنة الغربية بل لا تحقق هذه المشاريع إلاعلى أيدي عملاء حكام البلاد العربية الاسلامية من مبارك إلى العبادلة اليمني والمكي والأردني و السادس وزين العابثين وغير ذلك ..والشعوب لاهية ،لاهثة وراء الدفاع والمطالبة بالحقوق المدنية والسياسة ..تعيش الفقر والجهل والأمية في ظل بحبوحة الأغنياء الأغبياء ...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى