السلم والحرب والبيئة

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

ـ انعكاسات الحرب والتسلح على البيئة :
يعد القرن العشرون من ادمى قرون التاريخ الانساني على الاطلاق فالحرب العالمية الاولى كانت حصيلتها 30 مليون قتيل فيما كانت حصيلة الحرب العالمية الثانية 54.8 مليون قتيل اضافة الى المعاناة الانسانية الضخمة والاف المليارات من الخسائر المادية وتورط العالم بأسره ، بشكل او بآخر في هذه الحروب والثورات والقلاقل ، وما زال بعضها مستعرا من حولنا كما في جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا وكما في يوغسلافيا وافغانستان والعديد غيرها .

ان الحروب تعمل عى تدمير الحياة وانهيار الاقتصاد كما انها تحد من طموحات الانسانية في تحقيق حياة سعيدة في بيئة امنة انها ايضا تلوث البيئة وتستهلك الجزء الاكبر من الموارد التي يجب ان توضع في خدمة محاربة الفقر وفي تحقيق التنمية المستدامة .

هل ربح احد من خوض حرب او بكسبها ؟ اشك في ذلك فحتى هؤلاء الذين ربحوا الحرب فان الخسائر في الارواح ومعاناة الجرحى ومشوهي الحروب اضافة الى تراجع القيم الانسانية وفساد المعتقدات والقيم والاثار السلبية على الانسان والطبيعة تفوق بكثير المكاسب التي جناها المنتصر من الحرب . ويقول هيرقليط : »الحرب هي اب لكل شيء «، واضيف : »الحرب هي أب لكل السيئات اما السلام فهو أم لكل الحسنات« .

فبعد مرور 50 سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية و8 سنوات على انتهاء الحرب الباردة ، يبدو ان العالم قد بدأ اخيرا يتجه نحو السلام ونحو خطوات عالمية للحد من العنف في حالة النزاعات والحروب ، على الرغم من ان هذا التوجه لم يكن دائما ناجحا كما تعلمنا تجربة كل من الصومال والبوسنة وكرواتيا وفلسطين المحتلة .

لقد تقلص الانفاق العسكري وكنتيجة لذلك انخفض انتاج الاسلحة الجديدة بشكل ملحوظ في منتصف الثمانينات . ولكن تبعات الحرب الباردة ما زالت تثقل كاهلنا وتشكل تهديدا للبيئة كما هو حال التسلح في كل مكان منالعالم . فما زالت اجهزة الدفاع في كل انحاء العالم تعمل تحت ظروف سرية للغاية ، والمعلومات حول التلوث البيئي الناجم عن التسلح والتهديد الذي تشكله على سلامة الانسان وصحته لا يمكن الوصول اليها . اما بالنسبة للمعلومات القليلة التي نحصل عليها ، فليس بالامكان تحري دقتها ، وقد تكون في بعض الاحيان مضللة او غير دقيقة . ومن هذا المنطلق يجب ان ننظر الى التسلح باعتباره الخطر الرئيس على الانسان والطبيعة وعلى بقائها . دعونا ننظر الى بعض الامثلة على ذلك :

تستعمل الجيوش حوالي 3% من الاراضي على صعيد عالمي وحوالي 3% من انتاج النفط العالمي . وتبلغ حركة الطيران الحربي في المانيا حوالي 15% من مجموع حركة الطيران فيها وحوالي 50% من حركة الطيران في الولايات المتحدة . وتستهلك الدبابة من نوع ram - M1 Ab 1113 لترا من البنزين في الساعة فيما تستهلك الطائرة المقاتلة B - 52 13671 لترا ويتحمل التسلح مسؤولية 6-10% من تلويث الهواء عالميا ويتسبب في 13% من دمار طبقة الاوزون .

في الولايات المتحدة الامريكية هناك 21401 موقعا ملوثا تلوثا كبيرا والعديد منها ملوث بالاشعاعات العالية بسبب تفجير 1800 قنبلة هيدروجينية في مختلف انحاء العالم خلال العمليات التجريبية تم تفجير ربعها في الجو وينتج التسلح 97% من مخلفات المواد عالية السمية و78% من المواد ذات الخاصية الاشعاعية المتوسطة والمنخفضة السمية اي ما يعادل 1.4 مليار كوري وهذا يساوي 28 ضعف الاشعاعات التي اطلقتها حادثة تشيرنوبل ( 50مليون كوري ) .

ويحدث كل هذا تحت ظروف التدريب العادية بدون نشوب الحروب . اما اسوأ ما في الامر فهو ان العسكرين لا يصغون الى النقد فهم يقولون في كل مناسبة : ان واجبنا هو حماية الامة ، وليس حماية الطبيعة .

ولتوضيح مدى خطورة هذه المعتقدات دعونا نلق نظرة على الارث الذي خلفته لنا الحرب الباردة : المليارات المؤلفة تم صرفها خلال سباق التسلح ومليارات مؤلفة اخرى يجب صرفها الان للتخلص من فائض هذه المعدات الخطيرة " كميات هائلة من المخلفات الحربية الخطيرة يجب التخلص من سميتها ومن ثم التخلص منها، ومواقع لا تعد ولا تحصى تلوثت تربتها ومياهها تنتظر اعادة تأهيلها وتنظيفها وتلال من الاسلحة الفائضة من الطراز القديم يجب ان يجري تفكيكها بطريقة مقبولة ( امنة بيئيا ) .

في المانيا وحدها هناك حوالي5000 عبء من هذا النوع خلفتها جيوش الروس والامريكان وجيش المانيا الشرقية سابقا وراءها وتقدر كلفة التخلص من هذه المواد مليون مليون مارك الماني.

وعلى الرغم من معاهدة Start 2 و Start 1 ( معاهدة الحد من الاسلحة الاستراتيجية ) ومعاهدةCFE ( انتشار القوات التقليدية في اوربا ) اللتين تنصان على تخفيض المخزون النووي ومخزون الاسلحة التقليدية بشكل ملحوظ ، اضافة الى اتفاقية CWC ( اتفاقية الحد من الاسلحةالكيماوية ) التي وقعت في سنة 1992 والتي تمنع استخدام الاسلحة الكيمائية مع نهاية عام 1995 الا ان مخزون العالم من الاسلحة ما زال عاليا بشكل مفرط وهذا المخزون ما زال يزود الدول القائدة في مجال التسلح كالولايات المتحدة الاميريكية وروسيا بقوة تدمير هائلة .
فاذا ما دخلنا في التفاصيل لوجدنا انه في اوائل التسعينات تم تخزين او نشر الاسلحة التالية :
- 50 الف رأس حربي نووي ( ما يعادل 13 مليار طن من ال ت. ن. ت ) .
- 70 الف طن من الغازات السامة .
- ملايين من الاطنان من الذخيرة والمنفجرات التقليدية .
- حوالي 45 الف طائرة حربية .
- 172 الف دبابة عسكرية .
- 155 الف مدفعية .
- وحوالي الفي غواصة وسفينة حربية (3).
واتفاقيات الحد من التسلح مثل CWC و Start ولا تشمل حكومات ودول العالم الثالث وتنص معاهدة Start 1 على تخفيض الترسانة النووية من 60 الف راس حربي في سنة 1998 الى 22 الف رأس في سنة 2005 ولكن تفكيك هذه الرؤوس النووية سيطلق 257 طنا من البلوتونيوم و1310 اطنان من اليورانيوم غني الخواص . ان انتاج كيلو غرام واحد من البلوتونيوم ينتج المخلفات التالية : 1300 لتر من السوائل ذات الخاصية الاشعاعية العالية ، اكثر من 200 الف كيلو غرام من المخلفات ذات الخاصية الاشعاعية المتوسطة والمنخفضة وحوالي 10 ملايين لتر من مياه التبريد الملوثة ان حوالي 150 كيلو غراما من البلوتونيوم هي كمية كافية لاحداث سرطان رئة لكافة سكان الارض اذا ما وزعت توزيعا مناسبا .

كيف يمكننا التخلص من هذه المواد شديدة الخطورة لا احد يعرف الاجابةعن هذا السؤال كما لم يتخذ اي قرار بشأنها حتى الان . ان الاجراء الذي كتن متبعا خلال فترة الحرب الباردة بالتخلص منها بواسطة دفنها في البحار غو في طبقات الارض قد اصبح اجراء ممنوعا .
يجب تخزين المواد عالية الخطورة ربما ا لعقود مقبلة لان »الاجراءات الاخرى قد لا تكون متاحة لسنوات عديدة مقبلة« (4) .

يمكن تبديد اليورانيوم غني الخواص ( من كفاءة 95% لانتاج الاسلحة وتحويله الى 5% للاستعمال التجاري وحرقه تجاريا في مفاعلات الطاقة ، ولكن يجب تزجيج البلوتونيوم( بدمجه بالسيليكا النقية ودفنه في باطن الارض ) ولا توجد حتى الان القدرة التفنية لاتمام هذه العملية . كما ان كلفة الاسلوبين السابقين ستكون عالية جدا .

وهناك ايضا حوالي 300 غواصة تعمل بالطاقة النووية موزعة في انحاء العالم يجب التخلص منها كيف ستم ذلك ؟ هل بحرقها ودفنها في بحر بيرنج الموجود بين الاسكا واسيا كما فعل الروس ؟

وهناك مشكلة اخرى اكثر خطورة وهي التخلص من الاسلحة الكيميائية . ان كلفة التخلص من هذه الاسلحة تبلغ 10 اضعاف كلفة انتاجها ! » في الماضي اغرق » جند السم « الولايات المتحدة الاميركية وروسيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول مواد كيميائية في سواحل الاسكا وكليفورنيا وفلوريدا وفي بحر البلطيق وفي بحر الشمال وفي بحر المتوسط ومضيق شكا جيران وفي بحر اليابان « (5) كما طمرت هذه الدول كميات هائلة من المواد الكيمائية في طبقات الارض دون حفظ اي » بيانات حول اماكن طمرها « لذا فان احدا لا يعرف الاخطار بعيدة المدى التي ستنتج عن هذه المواد .

ان هذه الاساليب قد اصبحت محظورة الان ولكن كيف سنتمكن من التخلص من 31400 طن من الاسلحة الكيمائية التي يمتلكها الروس و 40000 طن من تلك التي تمتلكها اميركا ؟ ان هذه الكميات مجتمعة كافية لابادة كل الكائنات الحية على وجه الارض (6) ان البدائل المتاحة هي الحرق على درجات حرارة عالية وعمليات التحييد الكيميائي . ولكن هل سيكون بامكان روسيا ان تدفع كلفة هذه الطرائق ان العالم بأسره يدفع هذه التكاليف .

لقد بدأت الولايات المتحدة الاميركية تركز جهودها على الحرق في مرامد تحت درجات حرارة عالية جدا ولكنها لن تمتلك القدرة على تحقيق ذلك خلال الفترة الزمنية التي منحت لها والبالغة 10 سنوات اعتبارا من عام 1992 . كذلك فان عملية الحرق تشكل تهديدا خطيرا على صحة الانسان والبيئة ، حيث تنطلق خلال هذه العملية مواد شديدة السمية محتوية على اكاسيد الكربون المكلورة والفيوران اضافة الى كميات هائلة من الخبث السام والمياه المشبعة بالاملاح .

ان عملية الحرق هذه قد واجهت انتقادات من جميع الهيئات البيئية وتم ايقافها جزئيا في الولايات المتحدة . لذلك فان معظم المواد الكيميائية ما زالت مخزونة وما زالت تشكل خطرا جسيما .

ولكن يتوجب على القوى الحربية التخلص ايضا من ملايين الاطنان من الذخيرة ، 35 مليون طن منها في روسيا وحدها . كيف سيتم ذلك ؟ ان اسلوب الحرق في الهواء والتفجير ما زال مستخدما على صعيد واسع كونه الاسلوب الاكثر سهولة والاقل كلفة . ولكن " تفجير كيلو غرام واحد يطلق في الهواء مترا مكعبا من الغازات السامة (7) .

وهناك ايضا مئات الالوف من الدبابات وسلاح المدفعية والسيارات المدرعة التي يجب التخلص منها . ان معظم هذه الاسلحة قد يتم بيعها للدول النامية التي بدأت تشهد تطور سوق خطيرا جدا للاتجار بالاسلحة الكيميائية والخطرة والنووية . ما زال هناك سوق كبير لالة الحرب في عالمنا فدول العالم تصنع هذه الالات ، تبيعها وتشتريها من اجل الفخر والتظاهر بشكل اساسي دون استخدامها . حمدا لله على ذلك .الا ان منتجي هذه الالات وبائعيها ومشتريها لا يفكرون ابدا بكيفية التخلص منها بعد انتهاء فترة حياتها والتي لا تزيد على 10-15 سنة . ان الاف المليارات المؤلفة يجري هدرها ، كما ان الدول الفقيرة قد بدأت تدخل في هذه اللعبة ، وهي لا تمتلك اي خبرة او معرفة عن كيفية التخلص من هذا الركام من الاسلحة او عن الامكنة التي يمكن ان يوضع فيها هذا الركام.

ان مستقبل البشرية والبيئة لن يكون مشرقا طالما ان العالم ما زال يفكر بالحرب وبالحلول العسكرية بدلا من اختيار السلام والتحكيم .

ان الحرب نقيض الحياة . فعلى عالمنا ان يعقد معاهدة سلام مع الطبيعة والبيئة . ولذلك لا يمكن لعالمنا الاستمرار بالحرب كما لا يمكنه ايضا ان يستمر في جعل صحة العالمي والطبيعة قربانا لبحثة عن حروب جديدة هل ستتعلم الانسانية هذا الدرس ؟