التمييع السني في خدمة التشييع الإيراني
الجمعة 12 ديسمبر 2008, 18:11
تتزامن الضجة التي أحدثتها تصريحات الشيخ القرضاوي، والاتهامات التي طاولته بعدها، مع صدور كتاب "التقارب السني — الشيعي"•( حوارات الأستاذ وحيد تاجا ، دار الفكر — سبتمبر 2008)— الذي يركز على ذات موضوع تصريحات الشيخ القرضاوي — والكتاب يمثل حوارات مع 22 مفكراً وعالماً دينياً قام بها الأستاذ وحيد تاجا، في أسئلة موحدة انتقاها بعناية، في جوانب دقيقة متعلقة بموضوع التقارب السني الشيعي عموما..
عندما نقرأ الأجوبة، سنعيد قراءة تصريحات الشيخ القرضاوي و نعيد فهمها على أنها لم تكن رد فعل على "التشييع" فحسب، بل أيضاً، وربما بشكل أقوى، على الصمت السني إزاء ذلك — على "التمييع" الذي يمارسه بعض العلماء و بعض المفكرين والمنتمين للنخب، وهو "التمييع" الذي سيؤدي ، كتحصيل حاصل ، إلى المزيد من التشييع، سواء علِمَ ممارسو هذا التمييع أو لم يعلموه...
النخب التي حاورها الأستاذ تاجا متنوعة ومختلفة المشارب.. هناك على الجانب الشيعي خمسة مراجع، واحد منهم على الأقل شديد الأهمية على مستوى شيعة العالم كله، ومعروف باعتداله لكنه سيفاجئنا بأجوبة خارجة عن الاعتدال، وهناك مفكر شيعي معروف بخروجه عن النمط المرجعي التقليدي، ومفكر آخر متشيع من شمال إفريقية، وهناك "آية الله" التسخيري الذي يرأس مجمع التقريب بين المذاهب في إيران..
على الجانب السني هناك ثلاثة مفتين رسميين (بمعنى أنهم يشغلون منصب المفتي بناءً على تعيين من حكوماتهم) وستة أسماء تنتمي لتيار الإسلام السياسي وهناك أربعة باحثين مستقلين ينتمون إلى نخب الإسلام الحداثي، بالإضافة إلى مفكر علماني( سني المولد) تعكس أجوبته وجهة نظر العلمانيين في الأمر..
ما يحدث في الواقع، وهذا ما يجعل الكتاب شديد الأهمية، الفريق الشيعي يلعب دوره بحذق شديد، وإن بمهارة متفاوتة بين أعضائه: لغة ذكية تصر على حسن النية، وتمرر في الوقت نفسه ومضات ورسائل خطيرة بين السطور.. هل يمكن أن نتصور أن هذه الآلية هي شيء آخر غير "التقية" التي ميزت السلوك العُلَمائي الشيعي عبر القرون، وربما كانت قد مكنته أصلاً من النجاة من الذوبان في المحيط السني..
على الجانب السني، هناك أولئك الموظفين الرسميين، الذين لا يمكن توقع أن تكون أجوبتهم خارجة عن السياسة الرسمية لبلدهم، لذا فان لغتهم دبلوماسية، وأجوبتهم يمكن تصنيفها ضمن إطار "تبويس اللحى" وتدور حول أن الأمور بخير، "وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"، كما يليق بموظف حكومي أن يؤكد..
أما رموز الإسلام السياسي وبعضها قد بُني على فكرة "توحيد الصف أولا"، فسيجدونها فرصة سانحة لإثبات ولائهم لهذه الفكرة ، خاصة أن الموضوع مرتبط بإيران، التي يعدها البعض تجربة ناجحة في تكوين دولة دينية، ولو على مذهب آخر، ونجاحها في هذا — سيدعم — في تصورهم طرحهم المقارب، والأعرق، لإسلامية الحكم والدولة. لذا كانت أجوبة بعض المتحاورين من هذا الجانب، لا تخرج عن الخطاب التعبوي والعاطفي، الذي لا يهمه غير جمع الجماهير وتوحيدها ضد عدو ما، كما لو أن العدو بالضرورة واحد، ولا يحتمل أن يكون أعداء متعددين..مع ثلاثة استثناءات من هذه الأسماء( فيصل مولوي ، سالم فلاحات ، راشد الغنوشي) حيث كانت أجوبتهم صريحة وتظهر قدراً كبيراً من الواقعية، بينما دخلت الأسماء الباقية في مزايدات مؤسفة..
أما فئة المفكرين والباحثين فقد وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، فالمفكر المستقل ليس هناك من يحميه في زمن البلطجة الإعلامية أو الميليشاوية، وإذا كانت الاتهامات طالت من هو في حجم القرضاوي ودمغته بالعمالة وبأنه يعمل بالنيابة عن الحاخام، فإنهم من باب أولى، سيتهمون بالعمالة لأمريكا، ما دام أن المشروع الإيراني يبدو أنه في مواجهة المشروع الأمريكي في المنطقة.. كما لو أنه ليس من حق مفكر ما أن يستقل فعلاً، ويرفض المشروعين معاً.. لذا كانت إجاباتهم فاترة للأسف، وتتحجج بالموضوعية والحياد لكي تقدم جواباً لا يغضب أحداً، ولا يقنع أحداً أيضاً، ولا يسبر أغوار أي شيء أصلاً.. وهكذا، فإن الفريق "الشيعي" في الحوار كان له إستراتيجية واضحة، بتقنيات مختلفة، ربما تسكن لاوعي أعضاء الفريق وليس بالضرورة وعيهم التآمري.. أما الفريق السني في غالبه الأعم فقد تبنى لغة دبلوماسية هي جوهر التمييع أو اللا قضية، وهو الأمر الذي يعكس غياب المشروع السني تماما في اللحظة الراهنة ، وعندما يكون الأمر كذلك، فإن دبلوماسية التمييع هذه ،ستكون في خدمة إستراتيجية التشييع..
في البداية سيتفق الجميع عن أن هدف التقارب ليس الاندماج أو التوحد ولا إلغاء المذاهب، وإنما التعايش فقط، وهذا منطقي وواقعي بل ومحمود بلا شك، وقد كان حقيقة واقعة في تاريخنا رغم ما يزعمون.. لكن رغم هذا الاتفاق فإننا سنرى من يحاول تصعيد الأمر لفظياً ليجعل "المذاهب قطع من الفسيفساء في لوحة الجمال الإسلامي!"(ص 316)، "المذاهب هي كغرف متعددة في بيت واحدة"( ص 196).
والحديث هنا عن السنة والشيعة، مع كل فوارقهم العقائدية، وليس عن المذاهب الأربعة مثلاً، وهي نبرة تسطيحية لا تصلح حتى للعامة، فضلاً عن أن تكون في كتاب كهذا..
حسناً، بعد هذا السؤال، يطرح الأستاذ تاجا سؤالاً محكماً كفخ: ظاهره بسيط وباطنه معقد: هل للتدخل الأجنبي دور في إثارة الصراعات المذهبية، هنا سيسقط معظم من أجاب بـ "نعم" - وهم الأغلبية — لأن الجواب الجاهز سيفترض أن المقصود بالأجنبي هو أمريكا حصراً — وهم ما لم ترد الإشارة إليه في سؤال الأستاذ وحيد، وبالتالي سيتم تجاهل، أن إيران أيضاً — بالنسبة إلى كل من لا يمتلك الجنسية الإيرانية من المحاورين هي دولة أجنبية، و بالتالي سيكون لها أيضاً مصلحة ما في إثارة الصراعات الطائفية (أم أن إيران لم تعد دولة أجنبية؟!) وهكذا فإن الجواب الذي يتجاوز هذه الحقيقة، سيتجاوز حقيقة المشروع الإيراني بأسره، الذي دخل على أطراف أصابعه في غمرة انشغال الجميع (ترحيباً ومقاومةً) بالمشروع الأمريكي في العراق، وتربع ليقطف ثماره بمسميات شتى..
هناك أسئلة نموذجية توضح إستراتيجية التشييع، ودبلوماسية التمييع، أسئلة تبدو بسيطة ومطروحة للوهلة الأولى، لكن الأجوبة ستفصح عما هو أكثر من ذلك: مثلاً سؤال عن قبر أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، المحتفى به في مدينة كاشان، سيثير أجوبة مختلفة، فبينما سيأسف الفريق الشيعي لتضخيم الأمر، ويقول معظم أعضائه أن الأمر مختلق، فإن التسخيري نفسه ( رئيس مجمع التقارب!) ستنقل عنه ثلاثة أقوال مختلفة : سيقول هو إن القبر ليس لأبي لؤلؤة بل لدرويش من الدراويش!(ص 185) وسينقل عنه، عبر المحاورين، مرة نفيه القاطع للأمر(ص 187)، ومرة تأكيده له(ص 177)، ويبدو أنه سلوك نموذجي لمن يحمل رتبة (آية الله) — إصدار هذه الفتوى و ضدها في آن واحد، وكلها منسوبة له عبر "الوكلاء" غالباً، وبذا يمكن التملص عند الحاجة و حسب الموقف .. وسيطلع علينا أحد المراجع (المعروفين باعتدالهم) بتعليق غريب مفاده أن اغتيال الخليفة عمر هو مسألة فقهية (!) ( ربما يقصد أنها قضية جنائية)، وسيضيف إنها (قد) تكون مسألة فقهية سلبية!( أي أنها أيضا قد تكون إيجابية!!)..(ص 183) سيقول مرجع آخر أن الأمر محض كذب وأن القبر هو لشاعر كاشاني اسمه (أبو لؤلؤ)! ( ص18).. وسيدخل الجميع من الطرفين (باستثناء فيصل مولوي) في تفاصيل فنية تتعلق بمقتل أبي لؤلؤة في المدينة وكيف وصل قبره إلى كاشان ! متجاوزين أن القبر والاحتفاء به لا يتعلق أبداً بجثة شخص ما، بل برمزيته، وأن أبي لؤلؤة المجوسي قد انتقم للفرس عبر اغتيال الخليفة الإسلامي الذي أزال ملكهم — وإن وجود مشهد له في وطنه الأم لا يمكن أن يخرج عن سياق التكريم الفارسي له — حتى لو كان قبراً فارغاً، مثل أغلب مشاهد الأولياء، أو كما تكرم الدول أبطالها عبر نصب الجندي المجهول، ولقد كان أبو لؤلؤة جندياً غير مجهول للإمبراطورية الفارسية، وإعادة الاحتفاء بمشهده في إيران المعاصرة لا يمكن أن يخرج عن سياق الانتصارات التي يعيشها المشروع الإيراني حالياً.. الذي هو امتداد متجدد للمشروع الصفوي — وللإمبراطورية الساسانية من قبل ، فكيف لا يحتفي هذا المشروع بجندي غير مجهول مثل أبي لؤلؤة ؟!..
سيكون هناك سؤال عن مصحف فاطمة، وسيتدافع السنة جميعاً إلى إنكار الأمر (وهو أمر يجب أن يكون من اختصاص الطرف الآخر، لكن دواعي دبلوماسية التمييع السنية، تقتضي غير ذلك)، سيتبرع أحد المفتين السنة يقول لنا إن مصحف فاطمة هو (لمعة نور لدى سيدة نساء العالمين أفرغت فيه تفسيرها وتأويلها للقرآن الكريم)؟!! (ص 241) من أين جاء بهذا و نحن لم نعرف أن السيدة فاطمة كانت صاحبة تفسير؟ هل من مصدر سني؟ طبعاً لا، لكنها ضرورات المجاملة كما أكد مفتي ديار آخر.. أما الفريق الشيعي فسيؤكد أن القرآن الذي يتعبد به الشيعة هو ذاته الذي يتعبد به أهل السنة، وهو أمر لا شك فيه، لكنهم مع ذلك سيمررون جملاً هائلة: سيقول المرجع المعتدل مجدداً نقلا عن رواية سيقول انه لا يعرف مدى صحتها ، أن السيدة فاطمة نزل عليها (مَلَك) بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ليواسيها، وأن سيدنا علي كان يكتب ما يقول المَلَك، وأن ما كتبه في ذلك هو مصحف فاطمة!!.(ص 239) سيضيف لنا مرجع آخر معلومة تقريبية مهمة، يطمئننا فيه إلى أن مصحف فاطمة هذا لم يندثر، وأنه موجود عند الإمام المهدي عجل الله فرجه !..(ص 237).
عندما يطرح سؤال عن شتم الصحابة، سيرد فيه ذكر فتوى لثلاث مراجع مهمين تحرم الأمر، وسيكون السؤال عن سبب عدم الالتزام بهذه الفتوى. الغريب أن المفتين السنة سيسارعون إلى اتهام الأعداء بابتداع الأمر(ص 6) وسيقول آخر إن الأمر انتهى ولا وجود له حالياً وإنه من مخلفات الماضي، وسيقول لنا آخر إنه قرأ في أحد كتب الشيعة قولهم أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) !..( ص 218) الفريق الآخر، من جانبه سيكون له الإستراتيجية نفسها: الإنكار والاستنكار اتهام الأعداء بافتعال الأمر والتأسف على ما يفعله السفهاء و "من يتظاهرون أنهم من الشيعة !"( ص 215) — قد يكونون سنة أو يهود أو أي شيء — وسيكون هناك حديث عن لا أخلاقية الشتم بصورة عامة، ولكن ستمرر خلال ذلك كله، كالعادة، رسائل من بين السطور، تحوي دلالات مختلفة جداً، فسيكون هناك كلام عن أن من بدأ بالسبّ هم أصحاب معاوية (= أي السنة)، (ص 218)وفحوى الكلام أن (البادئ أظلم !)، والحقيقة أن الأمر بدا تاريخياً فعلاً بهذا الشكل، لكنه توقف تماماً ولم يتحول أبداً ليصير ظاهرة شعبية عامة كما حدث مع الطرف الآخر. سيمرر لنا أحد المراجع، بين الإنكار والأسف، معلومة أخرى، سيقول لنا أن الشيعة لا يقولون أبداً أن السيدة عائشة زنت والعياذ بالله — (لم يسأله أحد عن ذلك) — لأن الله سبحانه وتعالى قد عصم أنبياءه من أن تخونهم زوجاتهم بهذا السياق، ويضرب مثلاً لزوجتي نوح ولوط التي ذكر القرآن الكريم أنهما "خانتاهما" — فيقول إنها خيانة العقيدة، ويستأنف مؤكداً جواز احتمالية أن تخون زوجة النبي في العقيدة،(ص ) أي إنه يمرر لنا احتمالية أن تكون السيدة عائشة قد خانت الرسول عقائدياً في معرض إنكاره لوجود سب للصحابة!.. سيقول لنا عضو آخر في فريق التشيع، إن القضية الأساسية هي أن الشيعة لهم "موقف نقدي من بعض الصحابة وأنهم يميزون بينهم في المراتب والمقامات ولا يقولون بالعدالة المطلقة للصحابي.- وهو مبحث علمي بحت". ( 7) إذن الشتم ناتج عن موقف نقدي عقلاني يميز الشيعة عن السنة الذين يؤمنون بالعدالة المطلقة للصحابة (أي إنهم لا عقلانيين)! فاتتنا هذه والله، لكن هل يمكن مقارنة الأمر بالعصمة التي يؤمن بها الشيعة لأئمتهم؟.. أم إن المقارنة غير واردة لأن الصحابة بشر بينما الأئمة غير ذلك؟!.. سيحسم الأمر آية الله التسخيري الذي سيقول بعد محاضرة طويلة عن الأخلاق" أن السب عملية خاطئة وسخيفة ومرفوضة ولكنها لا تخرج الفرد من الإسلام" ( ص5)، أي بعبارة أخرى: "اضربوا رأسكم بالحيط".
ماذا عن موضوع "التشييع" ؟— وهو الأمر الذي أثاره القرضاوي — سيقول لنا البعض بخجل أن الأمر حرية شخصية( ص 193) ، كما لو انه ليس هناك مشروع سياسي إقليمي يدعم الأمر ،وسيصدمنا أحد رموز الإسلام السياسي السني بالقول "ليس مهماً عندي من تشيع ومن تسنن، المهم أن نهضة هذه الأمة قد بدأت" (ص 196)(قفلة خطابية ، تصفيق حاد). وسيقول لنا آخر معتذراً إنه لا يملك إحصاءات دقيقة عن الأمر(ص 25) أما التسخيري، فسيقول بعد أن ينكر الأمر برمته، ويؤكد أنه مجرد مبالغة :(أنا مع التبليغ — يقصد التشييع — ولكن مع التبليغ الإقناعي الفردي غير المنظم).. (ص 27) ألن تكون التقية هنا حاضرة أيضاً، كما في كل مكان، أن تقول الشيء ونقيضه في آن، وأن تظهر غير ما تبطن .. ألم تكن أجوبته كلها تندرج ضمن هذا الإطار التبليغي الإقناعي الفردي غير المنظم؟.. ألم يستغل الكتاب ليمرر أفكاره الحقيقية بين السطور؟.. هناك طبعاً ما لا يمكن تجاوزه من أقوال، مما يصلح لتكون نكتاً وطرائف، مثل قول أحد المراجع: إن علاقة الشيعة العرب بإيران مثل علاقة السنة العرب بإندونيسية!!(ص 149)
هذا الكتاب وثيقة حقيقية تفضح وتدين في الوقت نفسه ، لو حاولنا قراءته على هذا الأساس: إنه وثيقة تبين إستراتيجية التشييع الخفية ودبلوماسية الاعتذار والمجاملة والتمييع التي ستصب في مصلحة التشييع آجلاً أو عاجلاً.. ويمكن فهم صرخة القرضاوي على أنها صرخة بوجه التشييع والتمييع معاً، عسى أن لا تكون صرخة في واد.. * * *
المصدر: مجلة القلم
عندما نقرأ الأجوبة، سنعيد قراءة تصريحات الشيخ القرضاوي و نعيد فهمها على أنها لم تكن رد فعل على "التشييع" فحسب، بل أيضاً، وربما بشكل أقوى، على الصمت السني إزاء ذلك — على "التمييع" الذي يمارسه بعض العلماء و بعض المفكرين والمنتمين للنخب، وهو "التمييع" الذي سيؤدي ، كتحصيل حاصل ، إلى المزيد من التشييع، سواء علِمَ ممارسو هذا التمييع أو لم يعلموه...
النخب التي حاورها الأستاذ تاجا متنوعة ومختلفة المشارب.. هناك على الجانب الشيعي خمسة مراجع، واحد منهم على الأقل شديد الأهمية على مستوى شيعة العالم كله، ومعروف باعتداله لكنه سيفاجئنا بأجوبة خارجة عن الاعتدال، وهناك مفكر شيعي معروف بخروجه عن النمط المرجعي التقليدي، ومفكر آخر متشيع من شمال إفريقية، وهناك "آية الله" التسخيري الذي يرأس مجمع التقريب بين المذاهب في إيران..
على الجانب السني هناك ثلاثة مفتين رسميين (بمعنى أنهم يشغلون منصب المفتي بناءً على تعيين من حكوماتهم) وستة أسماء تنتمي لتيار الإسلام السياسي وهناك أربعة باحثين مستقلين ينتمون إلى نخب الإسلام الحداثي، بالإضافة إلى مفكر علماني( سني المولد) تعكس أجوبته وجهة نظر العلمانيين في الأمر..
ما يحدث في الواقع، وهذا ما يجعل الكتاب شديد الأهمية، الفريق الشيعي يلعب دوره بحذق شديد، وإن بمهارة متفاوتة بين أعضائه: لغة ذكية تصر على حسن النية، وتمرر في الوقت نفسه ومضات ورسائل خطيرة بين السطور.. هل يمكن أن نتصور أن هذه الآلية هي شيء آخر غير "التقية" التي ميزت السلوك العُلَمائي الشيعي عبر القرون، وربما كانت قد مكنته أصلاً من النجاة من الذوبان في المحيط السني..
على الجانب السني، هناك أولئك الموظفين الرسميين، الذين لا يمكن توقع أن تكون أجوبتهم خارجة عن السياسة الرسمية لبلدهم، لذا فان لغتهم دبلوماسية، وأجوبتهم يمكن تصنيفها ضمن إطار "تبويس اللحى" وتدور حول أن الأمور بخير، "وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"، كما يليق بموظف حكومي أن يؤكد..
أما رموز الإسلام السياسي وبعضها قد بُني على فكرة "توحيد الصف أولا"، فسيجدونها فرصة سانحة لإثبات ولائهم لهذه الفكرة ، خاصة أن الموضوع مرتبط بإيران، التي يعدها البعض تجربة ناجحة في تكوين دولة دينية، ولو على مذهب آخر، ونجاحها في هذا — سيدعم — في تصورهم طرحهم المقارب، والأعرق، لإسلامية الحكم والدولة. لذا كانت أجوبة بعض المتحاورين من هذا الجانب، لا تخرج عن الخطاب التعبوي والعاطفي، الذي لا يهمه غير جمع الجماهير وتوحيدها ضد عدو ما، كما لو أن العدو بالضرورة واحد، ولا يحتمل أن يكون أعداء متعددين..مع ثلاثة استثناءات من هذه الأسماء( فيصل مولوي ، سالم فلاحات ، راشد الغنوشي) حيث كانت أجوبتهم صريحة وتظهر قدراً كبيراً من الواقعية، بينما دخلت الأسماء الباقية في مزايدات مؤسفة..
أما فئة المفكرين والباحثين فقد وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، فالمفكر المستقل ليس هناك من يحميه في زمن البلطجة الإعلامية أو الميليشاوية، وإذا كانت الاتهامات طالت من هو في حجم القرضاوي ودمغته بالعمالة وبأنه يعمل بالنيابة عن الحاخام، فإنهم من باب أولى، سيتهمون بالعمالة لأمريكا، ما دام أن المشروع الإيراني يبدو أنه في مواجهة المشروع الأمريكي في المنطقة.. كما لو أنه ليس من حق مفكر ما أن يستقل فعلاً، ويرفض المشروعين معاً.. لذا كانت إجاباتهم فاترة للأسف، وتتحجج بالموضوعية والحياد لكي تقدم جواباً لا يغضب أحداً، ولا يقنع أحداً أيضاً، ولا يسبر أغوار أي شيء أصلاً.. وهكذا، فإن الفريق "الشيعي" في الحوار كان له إستراتيجية واضحة، بتقنيات مختلفة، ربما تسكن لاوعي أعضاء الفريق وليس بالضرورة وعيهم التآمري.. أما الفريق السني في غالبه الأعم فقد تبنى لغة دبلوماسية هي جوهر التمييع أو اللا قضية، وهو الأمر الذي يعكس غياب المشروع السني تماما في اللحظة الراهنة ، وعندما يكون الأمر كذلك، فإن دبلوماسية التمييع هذه ،ستكون في خدمة إستراتيجية التشييع..
في البداية سيتفق الجميع عن أن هدف التقارب ليس الاندماج أو التوحد ولا إلغاء المذاهب، وإنما التعايش فقط، وهذا منطقي وواقعي بل ومحمود بلا شك، وقد كان حقيقة واقعة في تاريخنا رغم ما يزعمون.. لكن رغم هذا الاتفاق فإننا سنرى من يحاول تصعيد الأمر لفظياً ليجعل "المذاهب قطع من الفسيفساء في لوحة الجمال الإسلامي!"(ص 316)، "المذاهب هي كغرف متعددة في بيت واحدة"( ص 196).
والحديث هنا عن السنة والشيعة، مع كل فوارقهم العقائدية، وليس عن المذاهب الأربعة مثلاً، وهي نبرة تسطيحية لا تصلح حتى للعامة، فضلاً عن أن تكون في كتاب كهذا..
حسناً، بعد هذا السؤال، يطرح الأستاذ تاجا سؤالاً محكماً كفخ: ظاهره بسيط وباطنه معقد: هل للتدخل الأجنبي دور في إثارة الصراعات المذهبية، هنا سيسقط معظم من أجاب بـ "نعم" - وهم الأغلبية — لأن الجواب الجاهز سيفترض أن المقصود بالأجنبي هو أمريكا حصراً — وهم ما لم ترد الإشارة إليه في سؤال الأستاذ وحيد، وبالتالي سيتم تجاهل، أن إيران أيضاً — بالنسبة إلى كل من لا يمتلك الجنسية الإيرانية من المحاورين هي دولة أجنبية، و بالتالي سيكون لها أيضاً مصلحة ما في إثارة الصراعات الطائفية (أم أن إيران لم تعد دولة أجنبية؟!) وهكذا فإن الجواب الذي يتجاوز هذه الحقيقة، سيتجاوز حقيقة المشروع الإيراني بأسره، الذي دخل على أطراف أصابعه في غمرة انشغال الجميع (ترحيباً ومقاومةً) بالمشروع الأمريكي في العراق، وتربع ليقطف ثماره بمسميات شتى..
هناك أسئلة نموذجية توضح إستراتيجية التشييع، ودبلوماسية التمييع، أسئلة تبدو بسيطة ومطروحة للوهلة الأولى، لكن الأجوبة ستفصح عما هو أكثر من ذلك: مثلاً سؤال عن قبر أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، المحتفى به في مدينة كاشان، سيثير أجوبة مختلفة، فبينما سيأسف الفريق الشيعي لتضخيم الأمر، ويقول معظم أعضائه أن الأمر مختلق، فإن التسخيري نفسه ( رئيس مجمع التقارب!) ستنقل عنه ثلاثة أقوال مختلفة : سيقول هو إن القبر ليس لأبي لؤلؤة بل لدرويش من الدراويش!(ص 185) وسينقل عنه، عبر المحاورين، مرة نفيه القاطع للأمر(ص 187)، ومرة تأكيده له(ص 177)، ويبدو أنه سلوك نموذجي لمن يحمل رتبة (آية الله) — إصدار هذه الفتوى و ضدها في آن واحد، وكلها منسوبة له عبر "الوكلاء" غالباً، وبذا يمكن التملص عند الحاجة و حسب الموقف .. وسيطلع علينا أحد المراجع (المعروفين باعتدالهم) بتعليق غريب مفاده أن اغتيال الخليفة عمر هو مسألة فقهية (!) ( ربما يقصد أنها قضية جنائية)، وسيضيف إنها (قد) تكون مسألة فقهية سلبية!( أي أنها أيضا قد تكون إيجابية!!)..(ص 183) سيقول مرجع آخر أن الأمر محض كذب وأن القبر هو لشاعر كاشاني اسمه (أبو لؤلؤ)! ( ص18).. وسيدخل الجميع من الطرفين (باستثناء فيصل مولوي) في تفاصيل فنية تتعلق بمقتل أبي لؤلؤة في المدينة وكيف وصل قبره إلى كاشان ! متجاوزين أن القبر والاحتفاء به لا يتعلق أبداً بجثة شخص ما، بل برمزيته، وأن أبي لؤلؤة المجوسي قد انتقم للفرس عبر اغتيال الخليفة الإسلامي الذي أزال ملكهم — وإن وجود مشهد له في وطنه الأم لا يمكن أن يخرج عن سياق التكريم الفارسي له — حتى لو كان قبراً فارغاً، مثل أغلب مشاهد الأولياء، أو كما تكرم الدول أبطالها عبر نصب الجندي المجهول، ولقد كان أبو لؤلؤة جندياً غير مجهول للإمبراطورية الفارسية، وإعادة الاحتفاء بمشهده في إيران المعاصرة لا يمكن أن يخرج عن سياق الانتصارات التي يعيشها المشروع الإيراني حالياً.. الذي هو امتداد متجدد للمشروع الصفوي — وللإمبراطورية الساسانية من قبل ، فكيف لا يحتفي هذا المشروع بجندي غير مجهول مثل أبي لؤلؤة ؟!..
سيكون هناك سؤال عن مصحف فاطمة، وسيتدافع السنة جميعاً إلى إنكار الأمر (وهو أمر يجب أن يكون من اختصاص الطرف الآخر، لكن دواعي دبلوماسية التمييع السنية، تقتضي غير ذلك)، سيتبرع أحد المفتين السنة يقول لنا إن مصحف فاطمة هو (لمعة نور لدى سيدة نساء العالمين أفرغت فيه تفسيرها وتأويلها للقرآن الكريم)؟!! (ص 241) من أين جاء بهذا و نحن لم نعرف أن السيدة فاطمة كانت صاحبة تفسير؟ هل من مصدر سني؟ طبعاً لا، لكنها ضرورات المجاملة كما أكد مفتي ديار آخر.. أما الفريق الشيعي فسيؤكد أن القرآن الذي يتعبد به الشيعة هو ذاته الذي يتعبد به أهل السنة، وهو أمر لا شك فيه، لكنهم مع ذلك سيمررون جملاً هائلة: سيقول المرجع المعتدل مجدداً نقلا عن رواية سيقول انه لا يعرف مدى صحتها ، أن السيدة فاطمة نزل عليها (مَلَك) بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ليواسيها، وأن سيدنا علي كان يكتب ما يقول المَلَك، وأن ما كتبه في ذلك هو مصحف فاطمة!!.(ص 239) سيضيف لنا مرجع آخر معلومة تقريبية مهمة، يطمئننا فيه إلى أن مصحف فاطمة هذا لم يندثر، وأنه موجود عند الإمام المهدي عجل الله فرجه !..(ص 237).
عندما يطرح سؤال عن شتم الصحابة، سيرد فيه ذكر فتوى لثلاث مراجع مهمين تحرم الأمر، وسيكون السؤال عن سبب عدم الالتزام بهذه الفتوى. الغريب أن المفتين السنة سيسارعون إلى اتهام الأعداء بابتداع الأمر(ص 6) وسيقول آخر إن الأمر انتهى ولا وجود له حالياً وإنه من مخلفات الماضي، وسيقول لنا آخر إنه قرأ في أحد كتب الشيعة قولهم أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) !..( ص 218) الفريق الآخر، من جانبه سيكون له الإستراتيجية نفسها: الإنكار والاستنكار اتهام الأعداء بافتعال الأمر والتأسف على ما يفعله السفهاء و "من يتظاهرون أنهم من الشيعة !"( ص 215) — قد يكونون سنة أو يهود أو أي شيء — وسيكون هناك حديث عن لا أخلاقية الشتم بصورة عامة، ولكن ستمرر خلال ذلك كله، كالعادة، رسائل من بين السطور، تحوي دلالات مختلفة جداً، فسيكون هناك كلام عن أن من بدأ بالسبّ هم أصحاب معاوية (= أي السنة)، (ص 218)وفحوى الكلام أن (البادئ أظلم !)، والحقيقة أن الأمر بدا تاريخياً فعلاً بهذا الشكل، لكنه توقف تماماً ولم يتحول أبداً ليصير ظاهرة شعبية عامة كما حدث مع الطرف الآخر. سيمرر لنا أحد المراجع، بين الإنكار والأسف، معلومة أخرى، سيقول لنا أن الشيعة لا يقولون أبداً أن السيدة عائشة زنت والعياذ بالله — (لم يسأله أحد عن ذلك) — لأن الله سبحانه وتعالى قد عصم أنبياءه من أن تخونهم زوجاتهم بهذا السياق، ويضرب مثلاً لزوجتي نوح ولوط التي ذكر القرآن الكريم أنهما "خانتاهما" — فيقول إنها خيانة العقيدة، ويستأنف مؤكداً جواز احتمالية أن تخون زوجة النبي في العقيدة،(ص ) أي إنه يمرر لنا احتمالية أن تكون السيدة عائشة قد خانت الرسول عقائدياً في معرض إنكاره لوجود سب للصحابة!.. سيقول لنا عضو آخر في فريق التشيع، إن القضية الأساسية هي أن الشيعة لهم "موقف نقدي من بعض الصحابة وأنهم يميزون بينهم في المراتب والمقامات ولا يقولون بالعدالة المطلقة للصحابي.- وهو مبحث علمي بحت". ( 7) إذن الشتم ناتج عن موقف نقدي عقلاني يميز الشيعة عن السنة الذين يؤمنون بالعدالة المطلقة للصحابة (أي إنهم لا عقلانيين)! فاتتنا هذه والله، لكن هل يمكن مقارنة الأمر بالعصمة التي يؤمن بها الشيعة لأئمتهم؟.. أم إن المقارنة غير واردة لأن الصحابة بشر بينما الأئمة غير ذلك؟!.. سيحسم الأمر آية الله التسخيري الذي سيقول بعد محاضرة طويلة عن الأخلاق" أن السب عملية خاطئة وسخيفة ومرفوضة ولكنها لا تخرج الفرد من الإسلام" ( ص5)، أي بعبارة أخرى: "اضربوا رأسكم بالحيط".
ماذا عن موضوع "التشييع" ؟— وهو الأمر الذي أثاره القرضاوي — سيقول لنا البعض بخجل أن الأمر حرية شخصية( ص 193) ، كما لو انه ليس هناك مشروع سياسي إقليمي يدعم الأمر ،وسيصدمنا أحد رموز الإسلام السياسي السني بالقول "ليس مهماً عندي من تشيع ومن تسنن، المهم أن نهضة هذه الأمة قد بدأت" (ص 196)(قفلة خطابية ، تصفيق حاد). وسيقول لنا آخر معتذراً إنه لا يملك إحصاءات دقيقة عن الأمر(ص 25) أما التسخيري، فسيقول بعد أن ينكر الأمر برمته، ويؤكد أنه مجرد مبالغة :(أنا مع التبليغ — يقصد التشييع — ولكن مع التبليغ الإقناعي الفردي غير المنظم).. (ص 27) ألن تكون التقية هنا حاضرة أيضاً، كما في كل مكان، أن تقول الشيء ونقيضه في آن، وأن تظهر غير ما تبطن .. ألم تكن أجوبته كلها تندرج ضمن هذا الإطار التبليغي الإقناعي الفردي غير المنظم؟.. ألم يستغل الكتاب ليمرر أفكاره الحقيقية بين السطور؟.. هناك طبعاً ما لا يمكن تجاوزه من أقوال، مما يصلح لتكون نكتاً وطرائف، مثل قول أحد المراجع: إن علاقة الشيعة العرب بإيران مثل علاقة السنة العرب بإندونيسية!!(ص 149)
هذا الكتاب وثيقة حقيقية تفضح وتدين في الوقت نفسه ، لو حاولنا قراءته على هذا الأساس: إنه وثيقة تبين إستراتيجية التشييع الخفية ودبلوماسية الاعتذار والمجاملة والتمييع التي ستصب في مصلحة التشييع آجلاً أو عاجلاً.. ويمكن فهم صرخة القرضاوي على أنها صرخة بوجه التشييع والتمييع معاً، عسى أن لا تكون صرخة في واد.. * * *
المصدر: مجلة القلم
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى